يقال إن رجلا أميا لم يكن يعرف كلمة «فجأة»، أي إن هذه المفردة لم تكن موجودة في قاموس كلماته على الإطلاق، ولما سمعها وعرف معناها، وتيقن من نفسه، قرر أن يتمرن على تطبيقها واستخدامها في جمل مفيدة وعبارات مكتملة، فذهب إلى أقرب بقالة، وقال للبائع: لو سمحت أعطني ببسي «فجأة» سفن آب! هذه «النكتة» وإن بدت في ظاهرها من باب المزاح، إلا أنها يمكن إسقاطها بشكل أو بآخر على وضع بعض الإدارات الأكاديمية في الجامعات المحلية، حيث يعاني أغلبها من إشكالية فهم الأنظمة وتفسير اللوائح، وبالتالي يتعذر التطبيق الصحيح بشكله الفعال والمؤثر. كثير من الأنظمة واللوائح تبدو لبعض القيادات الأكاديمية سهلة متيسرة وفي متناول اليد، ولكنها عند التطبيق تخضع لعوامل متعددة وتدخل ضمن حسابات مختلفة، تفقدها أغراضها الأصلية، وتبعدها كليا أو جزئيا عن جوهرها الذي وضعت من أجله، فهي تسقط بين أيديهم فجأة، ويقرؤونها سريعا، ويذهبون لتطبيقها دون مراعاة لمضامين نصوصها، ولا لم كتبت له، ولعل السبب في ذلك يعود إلى حقيقة أن الإدارة فن خاص وملكة إبداعية، لا توهب إلا لمن وفقه الله لها، وأنها - أي الإدارة - ليست مرتقى سهلا يرتقيه كل من أراد أو أريد له! هناك نسبة ليست بالقليلة من الأساتذة المحليين من أولئك الذين يتهربون من العمل الأكاديمي بشقيه التدريسي والبحثي، ويتنافسون على العمل الإداري فقط، وأظن - والله أعلم - أنه لولا بدل التعليم الجامعي الذي تصرفه الدولة لربما شهدنا عزوفا تاما عن التدريس، ليس لأن النظام لم يكن واضحا في تحديد مسؤوليات ومهام الأستاذ الجامعي، ولكن لأن تفسيرات بنود ولوائح بعض الأنظمة أوكلت لمن ليس لديه القدرة على إنزال النصوص منازلها الطبيعية أو تفسيرها بتفسيراتها المنطقية! إما لقصور في مهاراته الإدارية وإما لحاجة في نفسه أو لحاجتين وأكثر! فنجد من بين الأساتذة من هو على درجة «بروفيسور» ويتقاضى مرتبا باهظا ومع ذلك لا يدرّس! كيف؟! سأعطيكم مثالا واحدا: عميد الكلية أو أي عمادة مساندة يتكلف بالعمادة كعمل إداري ولا يدرّس، مع أن النظام يجيز خفض العبء التدريسي عنه بما يعادل ثلاثا إلى خمس وحدات دراسية فقط، والباقي يتحمله كأعباء تدريسية، وهذا ما لا يحدث في الواقع، لأن النظام يطبق عندنا معكوسا، فأصبح العميد فجأة يتحمل ثلاث وحدات تدريسية والبقية تحسب عملا إداريا. مثل هذه الفوضى والممارسات العشوائية لا تجدها في الجامعات العالمية إطلاقا، فالنظام الأكاديمي هناك يحترم ويطبق على الكل، ورئيس القسم هناك يدرّس، وكذلك عميد الكلية يدرّس، وفي حالات - قد تكون نادرة - نائب رئيس الجامعة ورئيسها يدرّسان! لماذا في جامعاتنا لا يحدث إلا العكس؟ فلا النظام الأكاديمي يحترم ولا يطبق بشكله الصحيح إلا فيما ندر! وإذا طالب أحد بتطبيقه بالشكل المثالي كان شاذا مخالفا! لا أخفيكم أنني أكاد أصاب بالغثيان والكآبة عندما أجري مقارنات بين ما أراه هناك في جامعاتهم وبين ما أجده هنا في جامعاتنا، إلى متى وبعض أنظمتنا الأكاديمية لا تساوي الحبر الذي تكتب به؟ وعلى (طاري) بدل التعليم الجامعي، هذا البدل الذي لو ثبت في الراتب الأساسي أو حذف منه لتلاشت كثير من الإشكاليات الأكاديمية، وأولها ما يتعلق بالمنطق السليم، وبعيدا عن حقوق الأساتذة المالية والتشجيعية، فشرط الحصول على بدل التعليم هو إكمال الأستاذ لعبئه التدريسي، مع أن إكماله للعبء واجب من واجباته، والإشكالية التي ستواجه من استخدم بدل التعليم كعصا إدارية في وجه أعضاء هيئة التدريس، بأنه لو جاء أستاذ ذو منطق جدلي سليم وقال: لا أريد هذا البدل في مقابل أن أبقى هكذا حرا وأتقاضى مرتبي الشهري، لا على شيء إلا «حرف الدال» أمام اسمي! لما استطاعت الإدارة الأكاديمية العاقلة مجادلته، والكارثة الإدارية أن هناك من العمداء ووكلائهم وبعض المستشارين من لا يدرس ويأخذ هذا البدل مع بدلات أخرى، كالإدارة واللجان الدائمة وغيرها مما لا نعلمه من بدلات! وعلى الرغم من هذا كله، ما زلت على يقين راسخ من أن المشرّع الأول، سواء في وزارة التعليم أو وزارة المالية أو مجلس الشورى أو مجلس الوزراء على درجة كبيرة من الخبرة والنظرة الشمولية حينما يسن الأنظمة الأكاديمية ويضع البدلات المالية، وهدفه الأول - بلا أدنى شك - هو تشجيع الموظف، وتنمية قدراته، وتحسين معيشته، واستثمار قدراته وطاقاته فيما فيه منفعة شخصية ومصلحة وطنية، وأخوف الخوف أن تسقط الأنظمة الأكاديمية «فجأة» في يد من لا يحسن التعامل معها أو لا يفهمها جيدا فيحملها أكثر مما تحتمل، أو يفسرها حسب المزاج وبوصلة التسلط، وأرجو ألا يسقط نظام الجامعات الجديد فجأة في أيدي هؤلاء فتنهال منهم المفاجآت أشكالا وأنواعا! @drbmaz
مشاركة :