إشكالية فهم الآخر

  • 8/15/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

هناك إشكالية كبيرة في فهم الآخر، خاصة في المجتمعات الغربية، ومن هنا تلك الحملات المسعورة التي يشعلها السياسيون وأصحاب الأقلام وفئات عريضة من المجتمع في حق المهاجرين، وبالأخص المسلمين منهم. ومما يزيد الطين بلة أن هذه الحملات لا تسلم منها حتى بعض الوجوه الأكاديمية التي تدرس في الجامعات الغربية، وما زلتُ أتذكر لما كنتُ طالباً في الجامعة الفرنسية، كيف كنا نحن الطلبة نتلقى محاضرات من بعض المنظرين في العلاقات الدولية في ظاهرها قواعد عن سوسيولوجيا العلاقات الدولية وفي باطنها تحيز ضد الحضارة الإسلامية. وكان هناك تباين جلي في التلقي والتجاوب، إذ كنا نحن الطلبة المسلمين نحتكم بصورة حقيقية ومرضية إلى واقع الحضارة العربية والإسلامية أثناء تلقينا لهذه الدروس، أما الطلبة الفرنسيون والأجانب (ما عدا الأفارقة والآسيويين منهم) فقد احتكموا إليها بما في ذلك نظرية صامويل هانتنغتون حول صراع الحضارات كما هي، بل غذوها انطلاقاً من نظريات مشابهة لها. وبقوا في هذا الحد من الفهم دون الغوص في خبايا التاريخ وعلم الاجتماع والحضارة، لبناء نقد ذاتي للنظرية المذكورة رغم بساطتها ورغم خطورة ما لها من نتائج على الفكر وعلى النظرة إلى الآخر. وإذا دخلتَ في حديث فكري معهم وجدتَ نظرتَهم إلى الحضارة العربية والإسلامية نظرةً محقِّرة، وإذا بحثتَ معهم فوق الحشائش وتحت الحشائش فلن تجد علماً ولو بسيطاً بتاريخ وواقع الحضارة العربية والإسلامية، بل كل ما لديهم مجرد خلاصات انطباعية سطحية تفتقر لروح العلم وتتنافى والحقيقة. وما زلتُ أتذكر حين سألتُ ذات مرة أستاذاً من أصول ألمانية، وكان من كبار منظِّري العلاقات الدولية في الجامعات الأوروبية، حول جدوى إدراج نظرية هانتنغتون في مقرر الدراسات العليا، خاصة أن هانتنغتون لا يمكن عده من منظِّري العلاقات الدولية ونظريته لا تصلح لأن توضع كندٍّ مع النظريات الشهيرة في مجال العلاقات الدولية.. فكان من إنصاف هذا الأستاذ أن ساندني في الرأي، لكن دون الخوض معي ومع زملائي في ماهية قرار إدراج نظرية هانتنغتون ضمن المقرر الدراسي. نعم، هناك جهل عميق بالواقع، كما أن هناك تراكمات تخلق صوراً مشوَّهةً حول الآخر، والعيِّنة التي أخذتُها هي عينة طلبة الدراسات العليا الذين يفترض أنهم ذوو كفاءة كبيرة في الحكم والنقد وعلى مستوى كبير من العلم التخصصي في مجالهم.. فما بالك بالرجل الغربي العادي الذي لا يتغذى فكره إلا بوسائل الإعلام! إن الاحتكام إلى العقل وإلى الحقائق الموضوعية لا يمكن إلا أن يفند النظريات المتحيزة التي طغت في أزمنة متعددة، وعلى رأسها نظرية هانتنغتون، هذا الرجل الأيديولوجي الذي كان همه الأساسي أن يعطي للحضارات والهويات الثقافية طبائع ليست فيها أصلاً.. فهي ليست كيانات مفرغة من كل تلاقح وتمازج مع نظيراتها التي تحرك المسيرة الإنسانية منذ قرون، وهو تلاقح سمح ليس فقط باحتواء الحروب الدينية والتوسع الإمبريالي، بل ساهم أيضاً في جعل التاريخ تاريخاً للتبادل والتفاهم والالتقاء الثري.

مشاركة :