بداية دعوني أقول إن ما سأتحدث عنه اليوم ليس جديدا في الحالة الأكاديمية، ولا طارئا عليها أو غريبا عنها، ولست أول من تحدث عنه أو ناقشه وحذّر منه، بل هو أمر يكاد يكون مألوفا ومعتادا، هكذا بالممارسة، وما سأقوله إنما هو مجرد وصف وتحليل لما هو قائم أكاديميا، لا أكثر، فالأنظمة الإدارية «المتشلشلة» كما وصفتها في مقال سابق هي أنظمة تافهة لذاتها، وتافهة لغيرها، حيث يسيطر على مفاصلها الرئيسة التافهون من كل فن ولون، وما يميز هذه الأنظمة أنها لا تنتزع أو بالأحرى لا تنتشل نحوها إلا التافهين، في شكل سلاسل لا تنتهي من الشلل المتشلشلة بعضها لبعض.البهرجة الإعلامية سمة من أبرز سمات أنظمة التفاهة الأكاديمية، أي التظاهر بتقديم أعمال ذات جودة عالية ومضمون عميق، وهي في الواقع عكس ما تزعمه تماما، فعلى سبيل المثال نجد أن التفاخر الإعلامي بالحصول على مراكز متقدمة في التصنيف العالمي للجامعات لا يتطلب عند هذه الأنظمة الأكاديمية التافهة سوى التحايل، إما بانتهاج برامج بحثية معينة تبدو قانونية وهي ليست كذلك، وإما بسلوك مسالك وطرق مشبوهة للوصول لهذا المبتغى، فإذا بحثنا عن النتائج الحقيقية التي تمثل الواقع المعرفي والبحثي لهذه الجامعة أو تلك، لا مجرد النتائج الظاهرية؛ لم نجد لها ولهؤلاء التافهين مكانا يذكر أو أثرا جميلا يدل عليهم. ولا يعني أن يكون المسؤول الأكاديمي تافها أن يكون بالضرورة فاشلا أو غبيا، ليس دائما، فقد يكون ناجحا في تكوين العلاقات الاجتماعية الضرورية التي من خلالها يستطيع أن يصل إلى الإدارة الأكاديمية، فأغلب التافهين اليوم لديهم من الذكاء العاطفي، وروح المرح والفكاهة، وحتى التمظهر الديني ما يمكنهم من الوصول إلى أمثالهم ونظرائهم، وبالتالي الظهور في مناصب أكاديمية مختلفة، ومن ثم السيطرة على القرارات المهمة، والتحكم في العقول وتهيئتها بشكل ما يجعلها مجرد أدوات في أيديهم.التقليد مظهر آخر من مظاهر الإدارة التافهة، فهي إن نجحت - أقصد الإدارة- في تقليد الإدارات الناجحة مرة أو مرتين، بطريقة أو بأخرى، إلا أنها تفشل في الإبداع والابتكار عند أول اختبار، وهذه الحالة للأسف الشديد تكاد تكون ظاهرة بارزة في معظم الجامعات المحلية، فالكل يراقب الكل، لا ليحاكيه أو يتبعه، وإنما ليستنسخ التجربة ويقلدها كما هي، ثم يزعم العمل ويدعي النجاح والكمال، وهدفه الأسمى ليس النجاح، كما قد ينطلي على البعض، بل النجاة والنجاة فحسب، لماذا؟ كي يبقى على كرسيه ويستمر في مركزه القيادي، وهكذا دواليك يتداولون بينهم المراكز الإدارية المهمة.وما الدعوات التي يطلقها البعض بين الفينة والأخرى نحو مواءمة مخرجات الجامعات بما يتطلبه سوق العمل إلا أوضح صورة للإدارة التافهة، كيف؟ الإدارة التافهة لا تدرك قيمة المعرفة ولا تعي أهمية العلوم، فهي مع «الخيل يا شقرا» أي مع ما يتطلبه ظاهر الظروف، لا مع الحلول الجذرية القائمة على أسس معرفية ومنطقية، بمعنى أنه قد تستغني الجامعة عن تخصصات علمية ونظرية فقط لأن خريجيها ليس لهم وظائف في سوق العمل التي تتداولها المواقع الالكترونية أو وسائل التواصل الاجتماعي، ويرون في هذا بديلا جيدا عن مناقشة مشكلة البطالة! والتافهون يميلون إلى الاعتقاد أن الجامعات يمكن أن تكون مراكز تدريب لا محاضن للفكر والفلسفة!موضوع تفاهة الإدارة الأكاديمية عميق جدا، ومتداخل مع موضوعات نفسية واجتماعية كثيرة، ولعل أحد أهم أسباب التفاهة الأكاديمية - كما يرى الفيلسوف الكندي آلان دونو- هم الأكاديميون أنفسهم، فالأكاديمي بدل أن يكون مفكرا ناضجا وفيلسوفا عبقريا تحول ذاتيا إلى مرتزق تافه، لا يبحث إلا عن مصالحه الخاصة ومصالح من يدور في فلكه من التافهين أمثاله، وهذا النوع من الأكاديميين ينتشر بشراهة ويتعاظم دوره، ليس محليا فحسب، بل على مستوى العالم، وله وجود فعال ومؤثر داخل الجامعات وخارجها.وعلى الرغم من أن هذه الصورة لوضع الإدارات الأكاديمية في جامعاتنا صورة قاتمة، وتبدو سوداوية في بعض من جوانبها، إلا أنه لا تزال هناك ثلة نزيهة من الأكاديميين المتميزين، لم تتلوث أفكارهم بداء غمط الكفاءات، وتقديم المصالح الشخصية، وتكوين العلاقات الخاصة على حساب العمل وجودة المنتج، ولم تنزلق أرجلهم بعد في وحول التشلشل، ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، هم في رحاب العلوم وأكناف الفلسفة الراقية، باقون وصامدون لا ينحسرون!drbmaz@
مشاركة :