يعرفان بعضهما جيداً لذلك لديهما شيء مختلف، يريد أحدهما أن يسأل الآخر عنه، أو أن يكتب عن أحد أعماله وهنا نفتح النوافذ لهما في إطلالات خاصة تشرع منها الأخيلة لتأملات جديدة.. أحاديث صادقة منبعها قلبان يتوشحان البياض لتلخص للقراء حكاية علاقة إنسانية. هنا حوار قلبين.. مساحة حرة خارج سلطة المحرر في الحكاية والمقولات: أهم ما يلفت الانتباه في رواية (هياء) أنها رواية منفتحة على كثير من الأسئلة المسكوت عنها، أو تلك التي تثير أسئلة جوهرية في الحياة الاجتماعية، لا سيما منها المتعلقة في البناء الاجتماعي للأسرة وعلاقتها بالمنظومة الأخلاقية للمجتمع، وإذا أردنا التخصيص أكثر جاز لنا القول: إنها رواية تختزل في طياتها انحيازاً لقضايا المرأة في المجتمع، وصورتها فيه، وتموقعها في منظومته، من طرح قضايا التعليم والزواج المبكر، والزواج من أجنبية (أي من خارج المجتمع الذي تنتمي إليه الشخصية)، وقضية نواتج هذا الزواج على صعيد الأولاد وإشكالية منحهم الجنسية، وتأثيره في الرباط الأسري الذي يميز الأسرة العربية والإسلامية، من دون أن تغض الطرف بحياء شديد على صرعات ثنائية في الحدث الروائي بين الماضي بقيمه البريئة نوعاً ما، والحاضر بقيمه المتشظية، أو صراعات الريف والمدينة، والشرق والغرب من خلال شخصية جمال، وروزلين، وديريك جونسون رفيق الرحلة في الطائرة. وكذلك تسليط الضوء على بعض القضايا التي سيطرت على المخيلة الشعبية كالسحر والشعوذة في بعض القرى. حوافز السرد الحكائي: إن الملفت للانتباه في الرواية أنها تحافظ على مستوى أفقي من التوتر الدرامي على طول مساحة الرواية، فإذا كان المألوف في الحدث الروائي أو مجموعة الأحداث الروائية أنها تنمو باتجاه ذروة درامية تنمو وتتشابك الحوادث فيها ومن ثمة تتعقد وتتأزم لتصل الحبكة إلى أعلى ارتفاعاتها فينتج عنها الانحدار البطيء أو السريع حاملاً معه الخواتيم و المآلات والحلول التي يُنهى فيها السرد الروائي، فإننا هنا أمام مجموعة من الفلاشات التي تمثلت بمقاطع ذات أرقام (تسعة عشر مقطعاً مرقما تتابعياً)، يمثل كل مقطع حالة من حالات الشخصيتين الرئيسيتين (هياء وجمال) وما يرتبط بهما درامياً (الأم شيخة، والخالات، والأخت، والأب،...)، عبر سرد خبري كاشف عن مكنونات الشخصيات عبر تقنيتي الحوار والوصف. وإذ تأملنا الحدث في رواية ( هياء) فسنجد أن حوافز السرد فيها لا تخرج عن فلك ثلاثة حوافز: حافز الحب، وحافز الموت والانكسار، حافز النقمة والكراهية. حافز الحب ويظهر من خلال جملة من العلاقات الأسرية أبرزها علاقتان: علاقة هياء بأمها، وبشقيقتها نورة، وهنا تُبرز الكاتبة صورة الأم المثالية التي تضمر خلف الفرح حزناً وعذاباً شاسعاً:» فالإصغاء إليها عندما تلقي الشعر النبطي، وهي تطهو الطعام، يعطيني إحساساً أنها أسعد امرأة في العالم، وبرغم العذابات التي مرت بها واليتم الذي تجرعته و الإهانات التي عصرت زهرة طفولتها، إلا أنها ظلت قوية وصابرة وكأن الزمن المر لم يترك بصمته على قلبها وجسدها» ( ص 8). والملاحظ أن هذه النظرة المثالية للأم ستتطابق مع النظرة المثالية لصورة الجدة (جدة جمال) التي تظهر دوما بمظهر الواعية والراعية والمتفانية في البحث عن والد جمال وأسرته، فتضحي بحياتها في سبيل الوصول إلى الهدف، فالجدة تظهر بمظهر الحكمة والتضحية: «يا الله.. جدتي أمينة.. هي امرأة جاءت من الأساطير.. فليست كل النساء جديرات بحمل لقب امرأة. هي من طراز أصيل يا ترى ماذا كان يدور في رأسها عندما تركت حياتها ورحلت من أجل أن تبحث عن أب هجرني وأهل لا يعرفونني، ولا أعرفهم، ولا أحمل جنسيتهم؟» ( ص 126). والملاحظ هنا انحياز الساردة لمنح بطلاتها سمة الحكمة وامتلاك نظرة فلسفية للحياة، على الرغم من عدم امتلاكهن للتعليم كحال الجدة والأم شيخة، أو عند امتلاكهم للتعليم كحالة هياء البطلة، أو منيرة صديقتها، في محاولة لتقديم تسويغات لتصرفاتهن داخل الحكاية الروائية، وهذا إذا كان مبرراً من الشخصيات المُتعلّمة، فقد يصعب على المتلقي تقبله أو إيجاد مبرراته من الشخصيات التي لم تمنح حظاً من التعليم، أو لعل التجربة التي تؤهلن لذلك. والحافز السردي الثاني هو حافز الموت والانكسار، فاللافت في الرواية تشابه مآلات الشخصيات وتطابق مصائرها: الأم شيخة يتيمة، وابنتها هياء ترث اليتم منها بوفاة والدها، جمال يتيم، حتى روزلين الشخصية الأجنبية في عمق تجربتها تعاني اليتم بطريقة ما، ويشكل الموت مصيراً محتوماً لشخصيات الرواية، الأب يموت، والأم تموت، والأخت نورة تموت مع جنينها ، والصديقة منيرة المريضة تموت مع أبنائها على يد زوجها المريض نفسياً، إن حافز الموت في مآلات الشخصيات الفرعية المصاحبة للبطلة شكّل الحافز المسيطر في تشكيل درامية الحدث، الذي كان يقتصر في كثير من جوانبه على الحوارات القائمة على البوح الفاضح لعلاقات اجتماعية قاسية توقع الظلم على الشخصيات لا سيما النسائية منها. كما أن لغة الموت جاءت سمة بلاغية للفعل السردي من خلال ارتباطه بتوصيف المكان، كما نلحظ في قول الساردة: «في الصحراء لا يفكرون بالموت كثيراً لأنه يعتبر جزءاً من الحياة، هو ليس نقيضاً لها، بل مكملاً بوصفه ضرورة للحياة أو امتداد طبيعي لها» (ص 101). أو من خلال ارتباطه بمشاعر الفقد، كوصف هياء افتقاد أمها بعد أن غيّبها الموت: «لا أعرف ماهية الموت... وهل يشعر بنا الموتى؟ هل يسمعوننا؟ هل.. وهل... اختصرت أمي بالنسبة لي كل نساء الكون واختزلتهن بشخصيتها القوية التي أخفت كل عذاباتها عني.. أفتقدها الآن... في صدري عصفور مبلل بالشوق يهزّ جناحيه لها، أصبحت أرى طيفها في كل ما يمرّ بي، فأرغب أن أقبض عليه متلبسة بجريمة الفقد» . ( ص 78). أو من خلال حضوره الطاغي في لغة الحكمة، كقول الأم: « لا أحد يموت نيابة عن أحد يا هياء»، أو في تصوير حرقة الشوق: «الشوق مثل العقرب تقرص ما تنشاف» (ص7) أما الحافز السردي الثالث الذي يحرك الفعل السردي في روية هياء، فهو حافز النقمة والكراهية، وهو وإن كان مضمراً في كثير من صفحات الرواية، فإنه يظهر بوضوح في شخصية جمال، وإن كنا نجد لحافز النقمة مبرراته الحياتية والاجتماعية والسردية، فجمال الطفل يواجه العالم مفتقداً للأب الذي لا يعرفه، فقد تخلّى عنه لمجرد أن أعراف بيئته لا تقبل الزواج من أجنبية ، وهنا تبرز تبريرية السرد للفعل حتى تسير الحكاية إلى مآلاتها من خلال إخفاء أو إهمال موقف مقنع أكثر لهذا التصرف الذي اتسم بالتخلي المطلق تماماً، كذلك تظهر النقمة من خلال موقف زملاء المدرسة من جمال (السخرية منه)، وعلى الرغم من هذه المبررات وغيرها من الظروف الحياتية القاسية، إلا أننا لا نجد مبررات لموقف الكراهية والنقمة على المرأة عموماً أو الأخت خصوصاً عندما يلتقي جمال بها، فكلاهما حاصل ظلم مشترك وقع عليهما ولا ذنب لهما فيه، فلم يختارا هذا القدر، ولكن نتيجة اللقاء واكتشاف الأخ، كانت وداعاً مُعزّزاً لجروحات الروح عند البطلة هياء، وندبة جديدة من ندبات الحياة التي ما تفتأ تجود باللقاء، حتى يكون الوداع مقيماً في جواره، هذا الوداع وإن كان «وداعاً مطمئناً» كما تصفه هياء (ص 209)، إلا أنه يضمر انكساراً للحلم، إنه «الوداع الذي يبتكره الإنسان ليعيش الحزن»، تقول: «حلمت كثيراً بأخ أو أخت لي، فالوحدة وصمت المنازل لا يمحوها إلا إخوة محبون، ... أمي كانت رهان الحياة الخاسر، وأخي كان رهاني الأهوج، كنت أعتقد أنه مثل تلك التحفة النادرة التي ليس لها بديل، لماذا يرقد الموت دائماً بجوار علاقاتنا؟» (ص 209). فلاشات السرد: امتلكت الكاتبة زينب زمام الفعل السردي من خلال اعتمادها تقنية المقاطع تتنقل من خلالها بين شخصياتها، فمقطع يتوقف عند شخصية هياء، وآخر يتوقف عند شخصية جمال، بالتناوب، اعتمدت في بنائهما على طريقتين رئيسيتين، هما الوصف الإخباري، والحوار، وقد قامت هذا المقاطع التسعة عشر على الفلاشات، التي لا تعتمد التفصيل، على عادة السرد الروائي، وإنما يعد كل مقطعاً فلاشاً أو صورة من الصور التي تدفع الحدث إلى الأمام، وهذه التقنية أقرب إلى القصة القصيرة ذات النفس القصير، إلا أن الكاتبة قد نجحت كثيراً في توظيفها في تشكيل بناء روائي مُحكم على الغالب، من دون إنكار أن تلك التقنية المختزلة تركت بعض الفجوات، التي تدفع القارئ إلى طرح أسئلة لم يجب عنها السرد الذي انحاز للحكاية على حساب المنطق في بعض المفاصل، كما قد نلحظ في الأسئلة التي تجعل شخصية الجدة (جدة جمال) تقدم على السفر طلباً لأهل حفيدها، فتظهر وكأنها شخصية معزولة عن العالم لا أقرباء ولا زوج ولا أهل، كذلك تسويغ حياتها في بلد آخر من خلال مخالفة في الإقامة (مخالفة القانون) كل هذه السنوات، وتأمينها للعمل؟، وللمدرسة للحفيد، ثم البعثة لجمال؟ وكذلك أسئلة تتعلق بإنطاق الشخصيات بلغة تفوق واقعا الثقافي، وأسئلة كثيرة أخرى. يبقى القول إن الكاتبة امتلكت الكثير من الجرأة في إثارة مشكلات حقيقية يعاني من المجتمع، تتعلق بمصائر شخصياتها، مع انحياز واضح لقضايا المرأة، من خلال تقديم صور ملتقطة من جوانب متعددة وزوايا مختلفة لنساءٍ مُكتظاتٍ بالفقد ومُنذوراتٍ للحزن.
مشاركة :