بصفتي مواطنا بحرينيا أرفع، في المستهل، أسمى آيات الشكر والثناء والتقدير لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، هذا الملك الإنسان الجواد بما فيه كل الخير لشعبه الكريم، على المكرمة الملكية بالعفو الخاص عن بعض المحكوم عليهم ممن نختلف في تثمين فعلهم، ونتفق على أنهم على كل حال بحرينيون، فعسى الله أن يشرح صدورهم بمزيد المحبة لوطنهم وشعبهم، ويلهمهم الرشد ليتعلقوا بوطنهم البحرين في المقام الأول ويعرفوا من ثم الجمعيات المذهبية المرتبطة بإيران على حقيقتها، ويتأكدوا من أنها تسوق هذه الجمعيات سوقا إلى سوء السبيل وبئس المصير. هذه المكرمة الملكية ينبغي النظر إليها على أنها دعم من جلالته؛ لترميم ما ألحقه المذهبيون الطائفيون ببنيان المجتمع البحريني من شرخ اجتماعي كاد يوصلنا إلى ما لا تُحمد عقباه، ولتوسيع قاعدة العمل على أساس مبادئ حقوق الإنسان؛ فهذا الشرخ المُحدث ساهم في إحداث شحنات من الريبة والشك والقلق بين المكونات الاجتماعية في هذا البلد، وخلق مناخا لم يكن في يوم من الأيام شأنا بحرينيا. وددت بما تقدم أن أنوه بأنني كتبت هذا المقال قبل أن تنقل إلينا الأخبار نبأ المكرمة الملكية بالعفو الخاص عن بعض المحكوم عليهم والتي درجنا على سماع مثلها ومن جنسها الكثير. وحيث ان هذا المقال يأتي في السياق العام الذي نظن من خلاله أن المجتمع البحريني ينتظر من هذه الفئة من الناس أن تتواضع وتكف عن إظهار نفسها -أو أن يظهرها المستقبلون من خارج السجن- في مظهر المناضل المنتصر، وتعلن توبة، أو اعتذارا، أو تبدي ندما؛ إذ هم في النهاية جماعة من المنفلتين مذهبيا أو البسطاء أو المغرر بهم من المراهقين وغيرهم، وهذا الأمر لا يمنعني من أن أؤكد على أن هناك من المعتقلين ممن لا ينبغي أن يعفى عنهم حتى يستنفدوا كامل مدة محكوميتهم. أعلم وأنا أرسل هذا الموقف أن الرأي الأول والأخير في ذلك يبقى بطبيعة الحال موكولا إلى صاحب الرأي والأمر مليكنا المفدى وتقديره لما قد لا نُدركه نحن، خاصة وقد خبرنا في مليكنا المفدى بعد نظره وحرصه الدائم على أن يكون أبا رحيما بكل أبنائه وبناته من البحرينيين الذين تعلموا من جلالته معاني العفو عند المقدرة ودلالاته الأخلاقية والاجتماعية والسياسية العميقة. هناك ثوابت وطنية ينبغي على المعفي عنهم أن يبرهنوا على استضمارها، ويعيدوا النظر في كل أشكال التبعية الإيديولوجية التي ترجموها بالملموس في دوار العار كراهية وحقدا على الفئات الأخرى في المملكة، فغني عن البيان أن العلاقات البينية الراقية المنسوجة من كريم الأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية السامية، كتلك التي ضبطت العلاقات المتوازنة بين أفراد مجتمعنا وفئاته على مدى الزمن، هي التي تتيح للمجتمع في أي بلد من البلدان أن ينمو بشكل طبيعي، وبالتالي فإن أي مشكلة من المشكلات الناجمة عن عملية التفاعل بين أفراده وطبقاته وأعراقه وإثنياته تطفو في المشهد، تكون قابلة للحل وفق تلك الأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية التي نشأ في ضوئها هذا المجتمع أو ذاك مهما كان حجم تلك المشكلات. المخيف الذي ينبغي أن ندركه نحن هنا معا على هذه الأرض الخليفية الطيبة فيما يتعلق بالوحدة الوطنية هو أن تشتغل جماعات ظاهرها سياسي وباطنها طائفي مذهبي مقيت، وتعمل على إنتاج علاقات تتعاكس مع توجهات المجتمع، وتهدف إلى هدم الصرح المثالي من النسيج الاجتماعي الذي بنيناه منذ سنين، بالضبط كما يحصل في مجتمعاتنا الخليجية الموبوءة بالأجندة الإيرانية وبهذا التعالق غير المنطقي بين الشوفينية الفارسية التي تسعى إلى اهلاك أمتنا وبين المذهب الشيعي الذي لا يخاصمه ولا يعاديه أحد شأنه في ذلك شأن المذهب السني أو الديانات اليهودية والمسيحية؛ إذ هي عقائد تعايشت في أمن وأمان على ثرى البحرين الطاهرة الطيبة، ولم تكن في يوم من الأيام مثار جدل أو خلاف قبل أن تحل اللعنة الإيرانية وتداعيات طابورها الخامس المبثوث هنا وهناك في دول الخليج العربي وفي عموم الشرق الأوسط بعراقه ولبنانه ووو... . حال المجتمع البحريني لم يستمر كما ورَّثنا إياه الآباء، وهذا مما يؤسف له حقا. ووفق المنطق الذي أسلفت فإنه عند الحديث عن العلاقات البينية في المجتمع البحريني الزاخر بمكوناته الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يخجل الإنسان البحريني أن يسأل آخر عن انتمائه لا بسبب أن هذا السؤال محرج لصاحبه ولكن لأنه ببساطة لا يرد على الخاطر لفرط عادية أن يكون الإنسان من يكون، ولهذا فإن هناك سؤال ينبغي التوقف عنده مليا للوقوف على واقع العلاقات البينية ومفاده: هل أن هذه العلاقات بين المكونات الاجتماعية في مملكة البحرين قبل أحداث الدوار 2011 هي نفسها بعده؟ إنه لسؤال جوهري، وينبغي أن يُطرح عندما يُراد البحث في مسألة هذه العلاقات ودراستها لتدبر السياسات الاجتماعية والإعلامية للتغلب على هذه المعضلة المستولدة من الخواء الفكري الذي يسود لدى شرائح اجتماعية استسلمت لما يروجه الطائفيون في المذهبين السني والشيعي. المجتمع البحريني واحد من هذه المجتمعات التي تميزت العلاقات بين فئاته على الدوام بمتانتها وبصلابة أواصرها وقوة نسيجها، فلا مكان في مجتمعنا البحريني لما سماه الأديب اللبناني أمين معلوف بالهويات القاتلة، ويعود ذلك، بلا شك، إلى إرث السماحة البحرينية المتجذرة في السلوك الاجتماعي المتوارث جيلا بعد جيل أولا، وثانيا إلى غياب المحرضات السياسية الداخلية والخارجية التي طفت على السطح بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. من الدروس والعبر التي ينبغي أن نكون قد استفدناها من أحداث 2011، هو أنه لا أمنيا ولا اجتماعيا ينبغي علينا غض الطرف عمن أسهم في تخريب العلاقات الاجتماعية تحت وطأة هواجس مذهبية طائفية لم يتوان عن تغليفها بالشعارات الحداثية من قبيل مدنية الدولة أو حقوق الإنسان..؛ لأن الطائفيين المذهبيين من أي مكون كان يجب أن يكونوا مهمشين، منبوذين إذا قُدر لهم أن يكونوا طليقين بعد نفاد مدة العقوبة. هذا إذا ما نحن أردنا أن نحافظ على المجتمع متماسكا. فتجربة الأحداث الأخيرة أوضحت أن الطائفيين المذهبيين والمحرضين على إشاعة البلوى الإيرانية هم سبب كل الاخلالات الأمنية والشروخات الاجتماعية التي وقعت في البحرين منذ ثمانينيات القرن الماضي.
مشاركة :