كعادتها على مدار اليوم من الصباح وحتى المساء، تطل السيدة العجوز من نافذة شقتها بالدور الثاني، من العمارة القديمة في أحد أحياء القاهرة ، تتلفت يمينا ويسارا وإلى الأسفل، تراقب -الرايح والجاي- في الشارع .. تطلب احتياجاتها من البائعين المتجولين في الشارع، يمر ايمن بائع الخضار بعربته "الكارو" كل يوم، ومعه أخوه المعاق ذهنيا مساعدا له، أيمن يبيع الخضار والفاكهة لزبائنه بكل رحابة صدر وسعادة، لا يبالغ في الأسعار، لديه مرونة وسلاسة في البيع حتى بالآجل! عندما يقترب من السيدة العجوز .. تناديه : انت يا زفت ! ابعت الزفت اللي معاك بالخضار بتاعنا !ينظر أيمن الصعيدي إليها بكل امتعاض : حاضر يا حاجة .. ويهمهم في نفسه: قبر يلمك ويريحنا من لسانك الماسخ يا عجوز الغبرة، والله لولا الناس الحلوة اللي في الشارع ماكنت حطيت رجلي فيه ..تسكن السيدة العجوز شقتها وحيدة في العمارة القديمة التي تمتلك نصفها، تزوجت ابنتها الكبرى "ميرفت" واستقرت مع زوجها في عمله في مجال السياحة في مدينة الغردقة .. ممدوح ابنها المعاق الذي أصيب بشلل في قدمه اليسرى تزوج هو الآخر وترك لأمه البيت بعد أن ازدادت المشاكل بين أمه وزوجته، أخذ أسرته ورحل فرارا من -غلظتها- مع اولاده، إلى شقة بالايجار في حي مدينة نصر، عمل ممدوح في محل بيع أحذية يمتلكه حماه الذي كان أكثر عطفا من أمه.. !بقى سيد -الابن الأصغر - مع أمه التي بخلت عليه بالمال عندما طلبه منها وألح في الطلب دون جدوى ! كانت يرغب في محل يمارس فيه صنعته، فهو ترك الدراسة ولم يكمل تعليمه، كان يعمل في ورشة كهرباء سيارات، فأراد أن يستقل ويعمل لحسابه فطلب من امه ان تعطيه محلا بالعمارة فرفضت ! لم يجد منها غير كل تأنيب وتذنيب - عمال على بطال -، فكانت تدعو عليه ليل نهار ..ساءت أخلاق سيد، أصبح غاضبا عصبيا ناقما .. انجرف مع أصدقاء السوء في طريق المخدرات والرذائل ! كان يعود للبيت في وقت متأخر من الليل، يتمايل يمينا ويسارا ينشر من مخزون الالفاظ القبيحة ما تستحي منه أذن المحترمين، لم تتحمل أمه ولم تصبر على أحواله التي تزداد سوءا يوما بعد يوم، فطردته من البيت .. غادر سيد البيت دون عودة ..ولم يعلم أحدٌ عنه شيئا ..منذ ثمان سنوات حدث مع والده نفس الشيء، غادر البيت منذ عشرة سنوات من سوء ما كان يعانيه مع زوجته تلك السيدة - قاسية القلب- .. كان توفيق ضابط الحربية رجلا نزيها، خدوما طيب القلب، منظما راقيا حنونا ! لكن لم تكن حياته مع زوجته مستقرة، تحَمل عنادها وعصبيتها وصبر عليها كثيرا، أحيل للتقاعد، لكنها لم تتقبل أن يجلس في البيت دون عمل ! بدأ رحلة البحث عن عمل اشتغل في شركة اتصالات كضابط أمن إلى أن بدأت صحته في الضعف والوهن، ولم يعد قادرا على العمل، لكن هيهات لم تتركه الزوجة ولم تتعاطف مع ظروفه الصحية والعمرية، فهي تحب المال حبا جما، لم يتحمل توفيق ضغوطها وتقلباتها التي لا تنتهي، واتهاماتها له بالعجز وقلة الحيلة ولسانها السليط طيلة اليوم ونعمة ما رأيت منك خيرا قط.. قرر توفيق الرحيل ! رحل الزوج إلى حيث لم يعلم عن مكانه أحد ! ..استقر الحال بسيد - الابن الأصغر - في الغردقة، ذهب إلى اخته طلب منها العمل مع زوجها فرفض الاخير وهدد زوجته: إن لم تطرد اخاها فلتأخذه من يده وترحل ..! فما كان من سيد بد من ترك بيت اخته، لا يعرف أين يذهب ! وهو لا يملك سوى خمسمائة جنيه أخذها خلسة من شنطة أخته ..في الملهى الليلي تعرف سيد على الراقصة "سوسن " التي تزوجها "بورقة عرفي" فيما بعد، أنجب منها بنتين - توأم - فأضطر لتوثيق عقد الزواج ليسجل البنتين بإسمه .. بقي يعمل سنتين في "البار" لكن لم تعطه الأيام ما يريد فكانت ضد رغباته، ففي ليلة حاول أحد الزبائن وكان مخمورا حاول التحرش ب "سوسو"، لم يقبل سيد أن تنتهك حرمته وعرضه، فاغتاظ وغضب، فهجم على الزبون المخمور فوكزه فكانت القاضية، هرب سيد متخفيا، حٌكم عليه غيابيا بالسجن سبع سنوات ..وما زال بعيدا عن قبضة تنفيذ الأحكام ! وبقيت العجوز من نافذتها - تَعُد خطوات المارين في الشارع القديم ولا زال أيمن يبيعها الخضار على مضض .. وما زالت الأحداث جارية ..
مشاركة :