يحتفل اللبنانيون الجمعة بالذكرى السادسة والسبعين لاستقلال الجمهورية، لكن للمناسبة هذه المرة نكهتها الخاصة على وقع الاحتجاجات غير المسبوقة التي تعم البلاد مطالبة برحيل الطبقة السياسية مجتمعة. فيما وجد الرئيس اللبناني ميشال عون نفسه أمام طريق مسدود في ظل عجز أركان السلطة عن توفير معادلة جديدة تؤسس لحكومة مقبلة. واستفاق المتظاهرون صباح الجمعة على إقدام مجهول على حرق مجسم لقبضة عملاقة وضعت في وسط بيروت بعد انطلاق الحراك الشعبي في 17 أكتوبر. إلا أن ذلك لن يثنيهم على ما يبدو من الاحتفال على طريقتهم -- عبر تنظيم "عرض مدني" في وسط بيروت ومسيرات ونشاطات متنوعة في المناطق. ويقول متظاهر يدعى وجد "إنه الانتصار الحقيقي" للمتظاهرين الذين ملأوا الساحات والشوارع خلال الأسابيع الماضية، وتمكنوا من منع البرلمان من عقد جلستين تشريعيتين على جدول أعمالهما مشاريع قوانين مثيرة للجدل. وأثمر حراكهم عن فوز محام مستقل بوجه أحزاب السلطة على رأس نقابة محاميي بيروت. وهم يطالبون اليوم بتشكيل حكومة اختصاصيين يمكنها أن تبلور حلولاً للأزمات الاقتصادية والمالية الخانقة. ورغم تجديد عون الخميس دعوته المتظاهرين إلى الحوار، معتبراً أنّ "التناقضات" السياسيّة أدّت إلى تأخير تشكيل حكومة ترضي تطلّعات الشارع الناقم على الطبقة السياسيّة والمُطالب برحيلها، إلا أن الحراك الشعبي يتمسّك بمطلب رحيل الطبقة السياسيّة بلا استثناء، إذ يأخذ عليها المحتجّون فسادها ويتّهمونها بنهب الأموال العامة. ومنذ خمسة أسابيع، يتظاهر مئات آلاف اللبنانيين في الشوارع والساحات ضد الطبقة السياسية، التي يحملون عليها فسادها وعجزها عن معالجة الأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة، في بلد صغير يقوم نظامه السياسي على المحاصصة الطائفية. وقال عون في رسالة وجّهها إلى اللبنانيّين عشيّة احتفال لبنان بالذكرى السادسة والسبعين للاستقلال، بثّتها شاشات التلفزة المحلّية "أكرّر هنا ندائي إلى المتظاهرين للاطّلاع عن كثب على المطالب الفعليّة لهم وسبل تنفيذها، لأنّ الحوار وحده هو الطريق الصحيح لحلّ الأزمات". وجراء الانقسامات السياسية الحادة منذ قيام الجمهورية، لا يتفق اللبنانيون على رؤيا موحدة للأحداث الكبرى التي طبعت مسار الحياة السياسية على مدى عقود، لا سيما الحرب الأهلية (1975-1990) التي تربع العديد من أمرائها على مقاعد السلطة. ويطالب المتظاهرون اليوم برحيلهم. ويبدو الحراك اللبناني عابراً للطوائف والمناطق، ويتمسّك بمطلب رحيل الطبقة السياسيّة بلا استثناء، إذ يأخذ عليها المحتجّون فسادها ويتّهمونها بنهب الأموال العامة. وتحت ضغط الشارع، قدّم رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته في 29 أكتوبر، دون أن يبادر عون حتّى الآن إلى تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة بحسب الدستور لتكليف رئيس حكومة جديد، ما يثير غضب المتظاهرين الذين يعتبرون أنّ السلطات لا تأخذ مطالبهم بجدّية. وأقرّ عون في رسالته إلى الشعب بأنّ الحكومة "كان من المفترض أن تكون قد ولدت وباشرت عملها"، لكنّه توجّه إلى اللبنانيين بالقول إنّ "التناقضات التي تتحكّم بالسياسة اللبنانيّة فرضت التأنّي لتلافي الأخطر وأيضاً للتوصّل الى حكومة تلبّي ما أمكن مِن طموحاتكم وتطلّعاتكم، تكون على قدر كبير من الفعالية والإنتاجيّة والانتظام". وأشار إلى أنّ "التحدّيات التي تنتظرها ضخمة، والاستحقاقات داهمة". وقبل يومين، أعلن عون أنّ "الحكومة الجديدة ستكون سياسيّة وتضمّ اختصاصيّين وممثّلين عن الحراك الشعبي"، إلا أنّ المشاورات المستمرّة خلف الكواليس لم تثمر بعد. وطالب الرئيس اللبناني خلال إطلالتَين أعقبتا انطلاق الحراك الشعبي، المتظاهرين بإيفاد ممثّلين عنهم للحوار معهم، الأمر الذي رفضوه، باعتبار أنّ حراكهم عفوي. ويتمسّك المتظاهرون بتشكيل حكومة مؤلفة من اختصاصيّين فقط، لإصلاح الوضع الاقتصادي المتدهور. وأقرّ الرئيس اللبناني في كلمته بأنّ التحرّكات الأخيرة "كسرت.. بعض المحرّمات السابقة وأسقطت، إلى حدّ ما، المحميّات، ودفعت بالقضاء إلى التحرّك" على خلفيّة ملفّات فساد يُطالب المتظاهرون بمحاسبة المسؤولين عنها إلا أنّه اعتبر في الوقت ذاته أنّ تحوّل "الإعلام والشارع والجدل السياسي إلى مدّعٍ، ومدّعٍ عام، وقاضٍ، وسجّان في آن، فهذا أكثر ما يسيء إلى مسيرة مكافحة الفساد". وسارع المتظاهرون في الشارع إلى الردّ على خطاب الرئيس، وعمدوا إلى قطع طرق في مناطق عدّة، خصوصًا في البقاع (شرق) وطرابلس (شمال). وقال متظاهر لقناة محلّية أثناء مشاركته في قطع جسر الرينغ المؤدّي إلى وسط بيروت "بدل أن يُحاسِب الفاسدين، يلقي اللوم على الإعلام والمتظاهرين؟". وعلّق متظاهر آخر على كلام الرئيس بالقول "ألقى علينا وعظاً، لكنّ ما يهمّنا هو (معرفة) متى موعد الاستشارات". يحيي لبنان الجمعة ذكرى الاستقلال، فيما يغيب العرض العسكري التقليدي عن وسط بيروت، ويُستعاض عنه بعرض في وزارة الدفاع يحضره الرؤساء الثلاثة. وبخلاف السائد خلال السنوات الماضية، لم ييستضيف وسط بيروت العرض العسكري التقليدي بمناسبة عيد الاستقلال. وتمّت الاستعاضة عنه بعرض آخر مختصر في مقر وزارة الدفاع على مشارف بيروت شارك فيه الرؤساء الثلاثة -- رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة المستقيل -- إلى جانب وزراء والقادة العسكريون والأمنيون. وأعلنت المديرية العامة للمراسم والعلاقات العامة في رئاسة الجمهورية أنه "نظراً الى الأوضاع الراهنة في البلاد، لن يقام حفل الاستقبال التقليدي السنوي في القصر الجمهوري في بعبدا لمناسبة عيد الاستقلال" بعد انتهاء العرض العسكري.
مشاركة :