عرفت أوروبا فى العصور الوسطى بدءا من القرن الثالث عشر (محاكم التفتيش) التى كان الناس يساقون إليها بمجرد الشبهة أو عن طريق وشاية أحد الجيران، وكان المشتبه به يتعرض للتحقيق والترهيب حتى يعترف بما يريدونه فإذا لم يعترف عرضوه للتعذيب الجسدى حتى يصل لمرحلة الانهيار ويعترف رغما عنه بالهرطقة التى يتهمونه بها فإذا أصر بعد كل ذلك على عدم الاعتراف أو الثبات على أفكاره أشعلوا النار فى الحطب وقاموا بحرقه فى احتفال جماعى وهم يهللون اعتقادا منهم أن هذا يرضى الرب ويقربهم اليه. ضحايا محاكم التفتيش تجاوزوا عشرات الآلاف وشملت شخصيات بارزة فى هذه العصور مثل المصلح التشيكي الشهير جان هوس ومثل أمام محاكم التفتيش الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برينو والعالم الشهير جاليليو الذى اضطر للتراجع عن نظريته فتم تخفيف الحكم عليه من الإعدام إلى الاقامة الجبرية. *** اليوم تنعقد فى مصر محاكمات تفتيش جديدة يدشنها إعلاميون ومحرضون ومنتمون للجهاز الرسمى للدولة يشكلون فى مجموعهم كتيبة نهش وتوزيع صكوك الوطنية ونزعها عمن يشاؤون، بوشاية متدنية يتحول مواطن صالح إلى مجرم تحاصره أسوار الظلام فى المعتقلات، بشبهة لا دليل عليها يتحول مواطن آخر إلى إرهابى خطير أو ممول للإرهاب وداعم له، بتحريض من إعلامى مخبول يتم شيطنة كيانات وشخصيات محل تقدير واحترام حيث تندفع كتيبة النهش وتتحرك بشكل منظم للإغتيال المعنوى المدروس والذى يتم فيه توظيف كل الأدوات التى تخالف القانون وتتجاوز كل الأطر لضمان تحقيق المهمة بنجاح. بلاغات متتالية يتم تقديمها للنائب العام ضد قائمة بأسماء رياضيين فى أحد أكبر النوادى المصرية تطالب بالتحفظ على أموالهم واعتقالهم لأن أصحاب البلاغات يشكّون ويعتقدون أن هؤلاء الرياضيين يتعاطفون مع الإخوان أو يغلب عليهم طابع التدين. قرارات إدارية بالتحفظ على أموال مواطنين كان آخرهم نجم الكرة المصرية الكابتن محمد أبو تريكة الذى تم اتهامه بتمويل عمليات إرهابية دون إخراج أدلة قطعية تؤكد إدانته وحين تقدم بطعن لإلغاء قرار التحفظ على أمواله تم رفض الطعن وطُلب منه أن يقدم أدلة تثبت عدم مشاركته فى تمويل الإرهاب! رغم أن المبدأ الأصيل يقول أن البينة على من ادعى. على جانب آخر بدأت عمليات ابتزاز مكشوفة تتحرك من جديد ضد عدد ممن خرجوا عن الخط العام من مؤيدى السلطة الذين أبدوا بعض الآراء النقدية تجاه المشهد السياسى فى مصر، ماكينة التشويه والتخوين تدور عجلاتها لترسل رسالة واضحة للمعارضين ولمن قد يفكرون فى المعارضة أننا سوف نستهدفكم وستدفعون ثمن ما تجرأتم عليه، (اللعب على المكشوف) هو سمة المرحلة الحالية حيث تظهر الولاءات والانحيازات والتحالفات التى تخبىء وراءها كثير من الصراعات. من يرفعون رايات محاكم التفتيش ويجعلون الوطنية ( وطنيتهم العرجاء التى تبيح القتل وتبث الكراهية ) دينا يريدون إجبار الناس على الانضواء تحت لواءه يتحركون وهم يقولون للناس أن ظهورنا تستند على ما يحميها ولن يستطيع أحد النيل منا وهم بهذا يعبرون بفعلهم عن جماعة مصالح فى ( دولة القبيلة ) ويقومون بهدم هيبة القانون وإسقاط قيمة الدولة واحترامها لدى كل من يرون هذه الممارسات الفجة التى لم يعد يمكن تبريرها ولا تزييف بشاعتها وتجميلها باسم الوطنية أو الحرب على الارهاب وحماية الوطن وغيرها من الشماعات التى تم استهلاكها بابتذال خلال الفترة الماضية ولم تعد مقنعة لأحد *** الناس فى مصر تتمترس نفسيا وتزداد انعزالا عمن يخالفها ويصنع كل تيار عالما خاصا به يتدوال فيه ما يبهجه من أخبار حتى وإن كانت غير حقيقية ويشفى غليله بشتم المخالفين واختلاق أساطير وأكاذيب لشيطنتهم وتبرير كراهيته لهم، لكل اتجاه ألتراس خاص به يهاجم ويدافع ويبرر، وكل الأطراف تغض النظر عن خطايا فريقها وتضخم من أخطاء الآخرين. الكل يتشفى فى الكل. والكل ينتظر الضرر للآخر ليشمت فيه. هذه هى صورة المجتمع المنقسم الذى مزقته خطابات الكراهية ومحاكم التفتيش ومقصلة التخوين واحتكار الحقيقة. ماذا جنينا غير الكراهية؟ وماذا حصدنا غير الإرهاب؟ هذا وطن يحترق ومازال المدلسون يقولون للناس أن السنة اللهب المتصاعدة من الحريق هى أضواء الانتصار وبشائر التقدم والازدهار، هذا شعب يفرقون بين أبناءه ويحرضون بعضهم على بعض ويقولون له هذه هى الوطنية، نسيج مجتمعى ينفرط عقده وشباب تخفت بداخله مشاعر الانتماء ويفضل اللامبالاة والانعزال عن الشأن العام بينما يصرون أن تمكين الشباب يمضى على قدم وساق. ما أشبه حالنا بمن ركبوا قطارا ينطلق للهاوية بينما يتصارع من فيه حول سبب الوصول للهاوية ويتشاجرون ويحمل كل طرف للأخر مسئولية السقوط ورغم أن الكل سيسقطون إلا أنهم لا يتحركون لإنقاذ أنفسهم من الهلاك وبين هؤلاء يقف فريق آخر يشمت فى الجميع ويتقافز من الفرح بفشلهم رغم أنه سيشاركهم نفس المصير البائس! فأين العقل فى ذلك؟ *** معالجات الماضى تعيد إنتاج نفس المصير ومآلات المستقبل لا يمكن تحديد ماهيتها ولا توقيتها، وكلما تجمدنا عند هذا المشهد كلما اتسع الخرق على الراقع وصار الخروج من المتاهة غير مأمون العواقب وعال الكلفة، فى انتظار عودة العقل وانكسار الغرور ..
مشاركة :