في حتمية المراجعة الجذرية لـ(العلوم الشرعية) (٥): حروب الردة

  • 11/24/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

منذ البدايات المبكرة لخلافة أبي بكر الصديق، بدأ تاريخ المسلمين يعيش مرحلة التداول، فيما يتعلق بالاجتهادات الخاصة والعامة، بين عنصري (العقل) و(النص/النقل). فعلى سبيل المثال، لم تكد تلك الخلافة تشهد بدايات الاستقرار والهدوء الاجتماعي والسياسي والأمني، بعد الخضة الكبرى التي حصلت في المجتمع الإسلامي الجديد بأثر حادثة السقيفة وما تلاها، إلا وأطلَّت مسألة الرِّدة برأسها على واقع المسلمين بشكلٍ صاعق. تحتاج مسألة الردّة، والحروب التي ترتبت عليها، تحليلًا متأنيًا لا ينحصر في قراءتها من زاويتها الدينية البحتة.. فالقراءة المذكورة غالبًا ما تثير فورًا الحمية والغيرة الإسلامية لدى القارئ، والأرجح أن يكون مدخلُها عاطفيًا.. وبالتالي، فإن القيمة العلمية، وبالتالي الفائدة العملية، لتلك القراءة، ستكون متدنيةً، إذا وُجِدَت أصلاً. لنلاحظ، مثلاً، أننا نتحدثُ عن زمنٍ لم تكن فيه وسائل اتصالات (حديثة) من أي نوع لِنَقلِ الأخبار.. ولنلاحظ أن الجزيرة العربية واسعةٌ مُترامية الأطراف.. ورغم أن هذا الواقع الجغرافي لا يزال حقيقةً اليوم، إلا أن الإحساس العام لدى إنسان الجزيرة في العام ١١ للهجرة بمعنى الاتساع المذكور كان أكبر بكثيرٍ منه اليوم لأسباب بديهية. رغم كل هذا، لم تنقضِ أسابيع، وفي أكثر الأحوال شهور قليلة، على وفاة الرسول الكريم في المدينة، إلا ووصلَ الخبرُ إلى كل أطراف الجزيرة.. وبسرعةٍ غريبة، نَتَجت عن ذلك الظاهرةُ (المُحيّرة) المتمثلة في ارتداد غالبية العرب عن الإسلام، بشكلٍ أو بآخر، فور سماع الخبر المذكور، بحيث تذكر كتبُ التاريخ أنه لم يبقَ مُوالياً لحُكمِ أبي بكر منهم سوى القبائل المحيطة بالمدينة، فضلاً عن سكانها هي نفسها، مع سكان مكة والطائف! بل إن الكتب نفسَها تُوردُ سبب امتناع القبائل المحيطة بالمدينة عن الردة، حيث تَذكرُ أن أهلَ تلك القبائل خافوا من عزم أبي بكر على إمضاء أمر الرسول بإرسال جيش أسامة بن زيد إلى الشمال، فقالوا: لو لم يكن للمسلمين قوة لما أرسلوا مثل هذا الجيش، فلنترك الأمر إلى قتالهم مع الروم، فإن انتصر الروم فقد كفونا القتال، وإن انتصر أسامة فقد ثبت الإِسلام.. والأرجح أن هذا السبب هو الذي منع خروج ظاهرة الردة إلى العلن في المناطق المحيطة بالمدينة. ثمة عوامل تتعلق بالسياسة والثقافة والاجتماع البشري تكمنُ خلف إسلام أولئك الذين ارتدّوا أصلاً، ثم إن ثمة عوامل أخرى سياسية واجتماعية وثقافية تكمن وراء رِدّتِهم.. هذا رغم أن غالبية المؤرخين والعلماء المسلمين، إن لم يكن جميعهم، اختزلوا ظاهرة الردّة في الجانب الديني البحت بتشكيل نوعٍ من الإجماع على أن المسألة تتلخصُ في أن (الإيمان) لم يكن قد (تمكَّن) بعدُ في قلوب المرتدين البعيدين عن (المدينة)، حيث يوجد (الرسولُ) الذي يتنزلُ عليه (الوحيُ) من السماء. لكن الأمر يتجاوز هذا بدرجات وسنعود إليه بعد أن نرى تفنيد هذه المقولة من خلال كبار الصحابة أنفسهم في موقفهم من موضوع الردة! فالمعروفُ أن المرتدين كانوا فريقين أساسيين سنتحدث عنهما، رغم أن ثمة أقوالاً تتحدث عن فريقٍ ثالث صغير عاد إلى عبادة الأوثان.. الفريق الأول انحاز ابتداءً إلى من أعلنوا نُبوَّتهُم من أمثال مسيلمة بن حبيب الحنفي وطليحة بن خويلد الأسدي والأسود العنسي ولُقيط بن مالك الأسدي.. والمفارقة أن الظاهرة لم تخلُ من دورٍ كبيرٍ للمرأة في ذلك الزمان.. تَمثّلَ في سجاح بنت الحارث بن سويد التميمي، التي ادّعَت النبوة في (بني تَغلب)، وظلت الجموعُ تتبعها وتتكاثر حتى وصَلت إلى اليمامة، حيث التقت بمسيلمة الذي خافَ من كثرة أتباعها، فتلطّفَ معها وداراها بكل السُّبل حتى تزوجها. . أما الفريق الثاني فقد ظلَّ على إيمانه بأركان الإسلام، مع رفضهِ فقط دفعَ الزكاة التي اعتبرها أعضاؤهُ ضريبةً يدفعونها مُكرهين.. أرسل هؤلاء وفدًا إلى المدينة لمفاوضة أبي بكر على الموضوع.. والمهم في الموضوع هنا أن جملةً من كبار الصحابة شاركت، بدرجةٍ أو أخرى، في الدفاع عن وجهة نظر الوفد، أو على الأقل محاولة تفهُّمِها، تَذكرُ كتب التاريخ منهم عمر وعثمان وعلي وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسالم مولى أبي حُذيفة! لو أن المسألة كانت دينيةً بحتة، وتتعلقُ بإيمانٍ وكفر، هل يُمكِنُ حتى تخيُّل أن يأخذ كل هؤلاء الرجال بعين الاعتبار مجرد الحوار مع أبي بكر فيما كان الوفد يريد طرحه؟ بل، هل كان ممكنًا أصلًا أن يتمثل الموقف الأولي لعمر بن الخطاب في رفض محاربة المرتدين؟ أسئلةٌ أساسية نحاول الإجابة عليها في المقال القادم.

مشاركة :