أورَدنا في المقال السابق ما ذَكَره عبد الجواد ياسين من أنه: «لم يكن ثمة إسلامٌ قبل النص... وهو ما يؤدي بدوره إلى القول بأن الحُجِّية في الإسلام ليست لشيءٍ سوى النص». وعلَّقنا على الأزمة التي أصابت العقل المسلم، مع القرون، بالتأثير، غير المقصود، لهذه الحقيقة. وهاهو الرجل يوضح الملابسات المُبكّرة لمسألة التدوين قائلاً: «لقد ظلت هذه الحقيقة الأولية مهيمنةً على العقل المسلم، لفترةٍ من الزمن، لم يكن للإسلام فيها سلفٌ ولا تاريخ. كان ذلك في مرحلة التكوين الأولى، منذ المنشأ وحتى مشارف عصر التدوين. فعلى مدى هذه الحقبة التي لم تدُم طويلاً، كانت الحُجِية منحصرةً في الوحي، وبوجهٍ خاصٍ في القرآن. على اعتبار أن السنة في معظمها كانت تطبيقاً عملياً للقرآن، أو شرحاً شفهياً له، ولم يُلتفت إليها في الوعي الفقهي، كمصدرٍ كاملِ الاستقلالية عن القرآن، إلا في وقتٍ لاحق، ومن خلال تكوينهِ عقليةً مختلفة، حين بدأت عمليةُ الطلب الواسعة النطاق على الحديث بشكلٍ مقصودٍ ومُبالغٍ فيه، أدى فيما بعد إلى ظاهرة التضخم الكلي في الحديث بكل أعراضِها الإشكالية على مستوى السند والمتن جميعاً». لا يتهم الكاتب الذين عملوا على (تضخيم) الحديث. وإنما يشرح صيرورة العملية بشكلٍ موضوعي يستحق القراءة والتفكير، ولكن لِمَن؟ لِمَن يهمهُ أن يفهم الظاهرة موضوعياً قبل القفز (العاطفي) إلى الأحكام المسبقة. وربما يمكن القول، للباحثين عن الحقيقة، وتحديداً، لمن يغارون على (الإسلام) بشكلٍ جدّي عقلاني. يقول الكاتب، الذي سنعيش مع كلماته لفترة: «ولما كانت وظيفة النص هي (العملَ) في واقع الحياة. كان من الطبيعي أن ينشأ (الفقه). أي مجموعة الأحكام الناجمة عن احتكاك النص بالواقع. ومن هنا تبدأ الإشكالية التي تشغَلُنا.. فلقد حدث أن تَرَاكمَت هذه الأحكام.. لاسيما بعد تدوينها، إلى جوار النص، لتكتسب مع مرور الوقت، وبسببٍ من هذا الجوار، أهميةً مرجِعيةً في العقل المسلم، ظلّت تتزايدُ باستمرار حتى صارت في نهاية الشوط نصاً أو كالنص. ومن ثم فقد صرنا حيال نوعين من النصوص: النص الأصيل المتمثل في الوحي الخالص كتاباً أو سنّة. والنصّ الوافِد المتمثل في الأحكام المُستنبطة من النص الخالص نتيجةً لحركةِ هذا النص الأخير مع الزمان والمكان. وبالطبع فإن المشكلة المطروحة هنا، ليست في نشوء الفقه في واقعٍ زمنيٍ بعينه، فذلك تحصيلُ حاصلٍ تفرضهُ وظيفةُ النص ذاتها». من الضرورة بمكانٍ، إذاً، التمييزُ الدائم، عند التعامل مع ما يُسمى (نصاً) في الإسلام، بين النَّصّين المذكورين أعلاه. سيقول كثيرون بأن هذا التمييز موجود! لكن واقع الحال في الثقافة الإسلامية السائدة، وفي أغلب المجتمعات الإسلامية، يُظهرُ أن ثمة خلطاً عملياً كبيراً يحدث يومياً لدى أكثرية المسلمين عند محاولتهم للعيش بدينهم في الواقع. نحن نتحدث هنا عن عامة الناس ممن يعيشون هاجس محاولة (الالتزام) بالدين في هذه الحياة. تلك المئات من الملايين المشغولة بشؤونها، خاصةً كانت أو عامة، من الصباح إلى المساء، وليس لديها الوقت والإمكانية العملية للانتباه إلى تلك المسألة الحساسة، وما يترتبُ عليها في الواقع من إشكالية. وهاهو كاتبنا يوضحُ الإشكالية بقوله: «وإنما تكمنُ المشكلة في تحميلِ هذا الفقه بمرجعيةٍ إلزاميةٍ ممتدةٍ في الزمان، تُمارِسُ على واقعٍ زمنيٍ لاحِقٍ صلاحيةَ النص ومكانَته. لأن الفقه حينئذٍ يكون قد تحول إلى نص». الفقه ليس نصاً. هذا ما يقوله الكاتب، وهذا هو عين الحقيقة. وهذا ما يَلتبِسُ على غالبية المسلمين حين يُصِرُّون على البحث والتنقيب عن الأحكام الفقهية التاريخية ليجدوا فيها ما يُجيب على أسئلتهم المعاصرة ويتعامل مع حاجاتهم الراهنة بشكلٍ يُحقق مقاصد الإسلام. ثم يتابع الكاتب توضيح الملابسة الخطيرة المذكورة بقوله: «ذلك بعينه هو ماحدث في العقل الفقهي المسلم. لقد اتسع مفهوم الإسلام ليشمل إلى جوار النص، الأحكام المُستنبطة من النص. واتّسعَ نِطاقُ الحُجِّية ليشمل إلى جانب النص، الفقه المبني على النص... [في حين] أن الفقه هو نتاجُ عمل النص في واقعٍ زماني مكانيٍ بعينه، وهذا يعني أن الفقه لاحقٌ على النص، لأنه مبنيٌ بالضرورة على احتكاك النص، وهو ثابت، بالواقع الذي هو متغيرٌ في الزمان والمكان. ولذلك فإن الحكم الفقهي لايملك التفلُّتَ من بصمة الزمن الذي نشأ فيه، ولا من بصمة المكان، لأنهما معاً جزءٌ لايتجزأ من تكوينه». هنا تأتي المسؤولية الكبرى المُلقاة على عاتق من يتصدرون للفتوى من رجال الدين في المجتمعات الإسلامية. فهؤلاء، في غالبيتهم العظمى، وبعيداً عن التعميم المُطلق، يَستسهلون تأكيد عملية الخلط المذكورة أعلاه. من خلال العودة إلى (محفوظاتهم) الفقهية التاريخية الصالحة لزمانها ومكانها، وذلك بغرضِ استحضارِها وتقديمها لعامة المسلمين على أنها هي التي تُجيب على أسئلتهم، وتتعامل مع تحدياتهم وحاجاتهم المعاصرة التي هي في حقيقتها أكثرُ تعقيداً من المسائل التاريخية بدرجاتٍ لا تقبل المقارنة، ولو كانت عناوينها العامة تقع في نفس الخانات، من الاقتصاد إلى شؤون الأسرة، ومن السياسة إلى قواعد التعامل مع (الآخر)، ومن المسائل الطبية إلى قضايا المرأة والتربية والعلوم والفنون والآداب ودور كلٍ من الدين والعقل، ومختلف فعاليات الحياة المستجدة في هذا العالم المختلف كلياً عن الماضي.
مشاركة :