ما هي العلاقة بين الجزء الثابت من عنوان هذه السلسلة، والمتعلق بضرورة مراجعة العلوم الشرعية، وبين ما تحدَّثنا عنه حتى الآن فيما يخص حادثة السقيفة، وماذا جرى بعد وفاة الرسول (المؤسِّس)، وحروب الردة؟ منذ تصاعد التدوين مع منتصف القرن الثاني الهجري، ومع التفصيل المتزايد والهائل الذي نتجَ عنه، وامتدَّ إلى فروع الفروع في حياة الناس، بدأ العقل المسلم رحلةً غريبة.. فبدلاً من أن يحاولَ، هوَ، فهمَ شؤون حياته التي تَدخُلُ في مجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة والفن والأدب، بمزيجٍ من حسابات العقل المتعلقة بالخبرات البشرية في تلك المجالات من ناحية، ومن مُعطيات النص (المقاصدية) من ناحية ثانية، صارَ كل شيءٍ، بالتدريج، ولكن بسرعةٍ كبيرة، دينًا بحتًا. وفقدَ العقل المسلم استقلاليته تدريجيًا حتى صار، ومعهُ الإنسان وحياتهُ، عالةً على المفسِّرين والمُحدِّثين والفقهاء. وسادَ مع الأمر في واقع المسلمين، على مرور العقود والقرون، التواكلُ والتقليد والكسلُ والآبائية، وكل ما حذّرَ القرآنُ المسلمينَ من الوقوع فيه، مما يقتل مقاصد الدين في الحياة. يحكي القرآن عن دينٍ ودُنيا، وتجري الكلمتان على أَلسِنةِ الناس إلى هذا اليوم، لكن الواقع يقول إن كل شيءٍ في هذه الحياة أصبحَ (دينًا)، بالدلالات والتوجيهات التفصيلية الشاملة للكلمة إلى حدٍ كبير، كما ورَدَت في آلاف المجلدات (النصّية)، ولم تكد تبقى ثَمةُ (دنيا) يعيش فيها الإنسان بفطرتهِ السليمة، أو ما جُبل عليه من خيرٍ أساسي ينبثق من نفخة الروح الإلهية فيه، أو بما تعارف الناسُ على أنه حقٌ وعدلٌ وخيرٌ وجَمال. تضخَّمت النصوص بشكلٍ هائل، في كل مجال. فلم يكن ثمَّة بدٌ أن تتغلغل في بيوت الناس، من غرف نومهم إلى حماماتهم، مرورًا بغُرفِ الطعام والجلوس. أصبح الإنسان المسلم (الملتزم) مُحاصرًا بالتعليمات والتوجيهات والفتاوى التي تقولُ له ماذا يفعل فيما يخص كل شيءٍ في حياته: كيف يأكل، ويشرب، ويقضي حاجته، ويلبس، ويغتسل، ويمشي، وينام، ويصحو، ويأتي زوجه، ويدخل، ويخرج، ويعطسُ، ويجلس، ويقوم، ويقص أظافره وشعره، وينظف أسنانه، ويتعامل مع لحيته، وحواجبه (ها). والأرجح أن يتعلم، بالتفصيل، كيف يتعامل مع زوجه، وكيف يُربِّي أبناءه، وكيف يقضي نهارهُ وليلهُ، وماذا يقول في أغلب الحالات التي يشهدُها يومهُ، وماذا لا يقول، ومع مَن يتحدث، وكيف يتحدث، وما هو موقفه من المرأة إن كان رجلاً، أو من الرجل إن كانت امرأةً، ومن (الآخر) غير المسلم، ومن (الآخر) المسلم من غير مذهبه، ومن السلاطين والحكَّام والولاة، وما هو موقفه من الفنون والآداب والترفيه والفرح والضحك والتسلية. هذا فضلاً عن آلاف التعاليم الأخرى التي تكاد تستغرق كل لحظةٍ في حياته اليومية، وآلاف أخرى تتعلق بتفاصيل العبادات المتعلقةِ بإسلامه. لن نسمح في هذا المقام بالاصطياد في الماء العكر، كما يقولون. فنحنُ لا نتحدَّث عن التوجيهات الأساسية لله ورسوله، والتي فهمَ مقاصدها، ولا يزال، البُسطاء من الناس، لأنها بالضبط، تنسجم مع فطرة الإنسان السليمة، ومع ما جُبلَ عليه من خيرٍ أساسي ينبعُ من نفخة الروح الإلهية فيه، ومع ما تعارف الناسُ على أنه حقٌ وعدلٌ وخيرٌ وجَمال. وإنما الحديث عن ملايين الصفحات التي لوَّنها بعض كُتَّاب الفقه والتفسير والسيرة بما ذكروا أنهم (استنبطوه) (هُم) من كلام الله ورسوله، وبنوا منه (نصوصًا) زاحَمت، بشهادة الواقع التاريخي والمعاصر، القرآن (النص الأصلي والأساسي)، حتى حاصرت عقول الناس وأرواحهم وأجسادهم وخَنقَتها في قوالبَ (نصّية)، بدل أن يُترك الناس وتديُّنُهم لاجتهادهم وتفاعل عقولهم وخبراتهم وتجاربهم مع فهمهم للنص الأصلي، ومع ما هم عليه من فطرة، وما يمتلكونه بأثرِ نفخة الروح الإلهية فيهم، وما يعرفونه يقينًا مما تعارفَ عليه الناس من (معروف). أكثر من هذا، لسنا هنا في مقام غمط الناس، من فقهاء ومفسرين ومحدثين، حقهم، والتهجم عليهم واتهام نياتهم. فالواضح، في غالبية الحالات، أن نيتهم كانت تتمثل فيما رأوا أنه خدمة الإسلام والمسلمين، في زمنهم، ووفق حاجاتهم وظروفهم الخاصة. تلك إذًا (أمةٌ قد خلت لها ما كسبت)، وما علينا سوى أن نكون بإزاء مواجهة مسؤوليتنا و(كسبنا) الذي أكد القرآن أننا سنسأل عنه. سنرجع لكل هذا بمزيدٍ من التفصيل. لكن الحديث عنه مناسبٌ لكي يتمكَّن القارئ من الربط بين المواضيع من جهة، ولأن هناك، من جهةٍ أخرى، مثالًا مُعبّرًا عن المسألة يتعلق بحروب الردِّة التي تكلمنا عنها في المقال السابق. فمقابل الفهم والتفسير (الديني) البحت لتلك الظاهرة، وهو السائدُ بشكلٍ كامل في كُتب التراث، يمكن النظر إليها من جانبٍ آخر تحدَّثَ عنه بعض المعاصرين، فيه سياسةٌ وثقافةٌ واجتماعٌ بشري، لكن حديثهم هذا أُبقيَ على الهامش، وسُلِّطَت عليه أشعةُ الحرمان. وهو ما سيكون موضوع المقال القادم من هذه السلسلة.
مشاركة :