يعبر الجزائريون عن ضياع وقتهم في زحمة المرور بالقول “كبرت في الطريق”، وهو ما يترجم حجم الظاهرة التي باتت تؤرقهم خاصة في السنوات الأخيرة، حيث لم تعد طرقات البلاد تستوعب مركباتهم ولم يعد الأمر مقتصرا على الطرق والمدن الكبيرة بل تعداه حتى إلى المدن الصغيرة، مما أفرز حالة اجتماعية معقدة ألقت بظلالها على مردودية وسلوك الفرد الجزائري في العمل والتنقل خلال المعاملات اليومية. يضطر محمد لطرش، الموظف الإداري في إحدى بلديات العاصمة، إلى استكمال نومه في مكتبه قبل بداية الدوام صباحا، لأنه يضطر إلى قطع المسافة الفاصلة بين مقر سكناه وعمله (30 كلم) في الساعات الأولى للصباح، لأنه لو تأخر إلى ساعة الذروة فإنه يجد نفسه متأخرا بساعات عن عمله والدخول في حرج عتاب رئيسه. وصار الرجل متعودا على السلوك الجديد في حياته، بعدما تحولت المسافة المذكورة إلى جحيم يومي لمرتاديها، نتيجة الزحمة الشديدة، ولذلك يفضل قطع المسافة في أوقات الخفة خلال دقائق معدودة فقط، بينما تستهلك ساعتين وأكثر على قاطعيها خلال فترات الذروة. وبات هدر الوقت في الجزائر ظاهرة عادية، رغم نتائجها السلبية على مردودية العمل وسلاسة المعاملات اليومية والمواعيد، وحتى على صحة الفرد الذي بات ضحية التوترات العصبية والأمراض المتصلة بها، حيث يعتبر السكري وضغط الدم والنوبات القلبية من الأمراض المستشرية في البلاد خلال السنوات الأخيرة حسب تقارير رسمية. ووقع منصور همال، في مشكل إداري مثير، بعدما وضعت زوجته مولودها في سيارة الإسعاف التي كانت تقلها من مستشفى بإحدى المحافظات الداخلية إلى مستشفى بلفور بالعاصمة، حيث تم رفض تقييد مولوده في سجلات الحالة المدنية في بلدية المستشفى وفي بلدية الإقامة، لأن المولود رأى النور في منتصف الطريق، حيث لا جغرافية إدارية تتكفل بالأمر، وأن الزحمة المرورية تعيق وتؤخر كل شيء بما فيها سيارات الإسعاف، ولم يتمكّن الوالد من تسوية وثائق مولوده إلا بعد تدخّل بعض الخيرين لدى الإدارة. وساهمت الحواجز الأمنية الثابتة والعشوائية في تفاقم الظاهرة بشكل كبير، مستندة في ذلك إلى مقتضيات حالة الطوارئ التي كانت مطبّقة في البلاد إلى غاية العام 2012، وأثارت لغطا كبيرا في دواليب السلطة، نتيجة تسببها في أوضاع حرجة للحالات المستعجلة وتعطيل مصالح المتنقلين، حيث حظيت بجلسات نقاش في البرلمان العام 2011. إلا أن وزير العلاقات مع البرلمان آنذاك محمود خوذري، وحتى رئيس الوزراء حينها أحمد أويحيى، برر الظاهرة بـ”تنامي استعمال الجزائريين لمركباتهم للتنقل لأبسط الأسباب، مستفيدين في ذلك من الأسعار المتدنية للوقود”، وأشار حينها إلى تواجد نحو أربعة ملايين مركبة خاصة وعمومية في الطرقات، وهو الرقم الذي يناهز الآن سقف الستة ملايين مركبة، حسب إحصائيات حكومية. وتبقى مبررات الحكومة غير مقنعة تماما للجزائريين في تفسير ومعالجة ظاهرة الزحمة المرورية، قياسا بغياب منظومة نقل عمومي فعّالة وناجعة في البلاد، مما يضطرهم إلى استعمال مركباتهم الخاصة في الالتحاق بمواقع عملهم أو قضاء معاملاتهم، وعدم مواكبة البنى التحتية لتنامي النمو الديموغرافي، والاكتفاء في أحسن الأحوال بحلول ترقيعية لما يعرف بـ”النقاط السوداء”. ويرى الخبير الاقتصادي شمس الدين شيتور، أن “الجزائر تبذر 400 مليون دولار سنويا في الزحمة المرورية، نتيجة الوقود الضائع في الزحمة المرورية”، مما يؤكد أن الظاهرة أخذت بعدا اقتصاديا مباشرا وغير مباشر، بسبب هدر ساعات كاملة من ساعات العمل، وتراجع مردودية العامل نتيجة ارتدادات التوتر العصبي والإرهاق اليومي. وفي غياب إحصائيات دقيقة حول الظاهرة التي باتت تدق أجراس الإنذار، بالتفكير في مخططات وطنية شاملة لفك الحصار عن حركة الجزائريين، فإنه يبقى مجرد حادث سير أو تهاطل أمطار أو حاجز أمني، كافيا لضياع ساعات طويلة من عمر المتنقلين، وبات بالإمكان الحديث عن ضياع جزء من حياة بعض الجزائريين في زحمة الطرقات. ويرى مختصون في علم الاجتماع، بأن لكل تحوّل اجتماعي تداعياته السلوكية والنفسية في حياة المجتمع، وأن ما قد يظهر برفاه جزائري خلال السنوات الماضية، حيث صار بإمكان معظمهم اقتناء سيارته الخاصة، لم تواكبه عملية تطوير وترقية البنى التحتية بالشكل اللازم، وحتى الاستشراف الحكومي بحاجيات المجتمع المتصاعدة يبقى بعيدا عن الواقع، ولذلك تحوّلت نعمة امتلاك المركبة إلى نقمة شاملة بمرور الوقت. ويذهب أستاذ علم الاجتماع شفيق بوزيد، إلى أنه “مهما حاول الفرد التكيّف مع الظاهرة عبر تعديل توقيته اليومي ورسم أجندة جديدة، إلا أنه لا يمكن تجاهل الأضرار والتداعيات على الفرد والمجتمع بشكل عام، لأننا أمام حالة هدر وقت غير مسبوق، مما يضفي إلى ضياع مردودية في العمل والإنتاج والثورة وفي الصحة ومرونة الحياة”. وأضاف “الظاهرة باتت أكثر تعقيدا وتشعبا، ولا بدّ من أخذها بشكل علمي وجاد من طرف السلطات المختصة، لأن المجتمع في نمو ديموغرافي متزايد، وحاجته للخدمة العمومية في تصاعد مطرد، وعليه بات تقديم تشخيص دقيق أكثر من ضرورة لوضع حلول ناجعة، تصل إلى توفير الحد الأدنى من ليونة الحركة في ربوع البلاد”.
مشاركة :