ربما لا توجد مدينة تضاهي القدس في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي مثل الخليل، سواء فيما يتعلق بالاستيطان، أو بشأن الرمزية الدينية أو الرواية التاريخية، ولعله في هذا الإطار تتجه الأنظار حاليا نحو مدينة الخليل، التي قد تحتل (مع القدس) المشهد الصراعي القادم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، سيما بعد الحديث عن إمكان تحقيق هدوء في غزة. ولعل مصادقة وزير الدفاع الإسرائيلي اليميني الجديد نفتالي بينيت، قبل أيام، على مخطط لبناء مستوطنة يهودية جديدة في قلب الخليل، في سوق “الجملة”، لمضاعفة عدد المستوطنين اليهود، يؤكد ذلك، علما أن القاطنين في تلك المنطقة يناهز عددهم على ألف مستوطن، يعيشون تحت حماية عسكرية مشددة، وينغّصون حياة ثلاثمئة ألف فلسطيني، وتقييد قدرتهم على الحركة، ومصادرة البيوت والمحلات التي تقع في تلك المنطقة. والجدير ذكره أن أول محاولة استيطانية نشأت في الخليل كانت في العشرينيات، لكن تداعيات “هبة البراق”(1929)، التي تضمّنت مصادمات عنيفة، سيما بين أهالي مدينة الخليل والمستوطنين اليهود فيها، ونتج عنها قتل حوالي 71 يهوديا وجرح العشرات منهم، أدت إلى خروج المستوطنين اليهود منها، بحيث باتت الخليل منذ ذلك الوقت عصية على النشاط الاستيطاني؛ إلى حين احتلال إسرائيل لباقي الأرض الفلسطينية في حرب 1967. لكن احتلال إسرائيل الضفة (وغزة) فتح المجال أمام معاودة الاستيطان في الخليل، وهو ما تمثل بقيام الحاخام المتطرف موشيه ليفنغر (10/4/1968)، الذي كان يقود مجموعة من ثمانين رجلا وامرأة، بدخول مدينة الخليل والإقامة في أحد فنادقها، ولما طالت إقامتهم قامت الحكومة الإسرائيلية بنقلهم إلى مقر الحاكم العسكري، ثم أقامت لهم تجمعات سكنية خاصة؛ بحجة إعادة بناء الحي اليهودي الذي كان يقطنه المستوطنون اليهود عام 1929. لذا يمكن القول إن بداية النشاط الاستيطاني في الضفة انطلق من الخليل بالذات، في دلالة ثأرية على أحداث 1929، وفي محاولة من القوى الإسرائيلية الحاكمة، وهي علمانية حينها، إيجاد تطابق بين ادعاءات القومية اليهودية والدين اليهودي، وبين الأيدولوجيا الصهيونية وجغرافيا إسرائيل، وبين دولة إسرائيل وما يسمى “أرض إسرائيل”. بعد ذلك، وفي ذات السياق، سمحت الحكومة للمستوطنين اليهود بإقامة مستعمرة “كريات أربع” (31/8/1970)، التي باتت معقلا لجماعة “غوش إيمونيم” المتطرفة، ورمزا للاستيطان الديني والأيديولوجي. ثم وفي 27/8/1972 قام الحاخام مائير كاهانا، زعيم حركة “كاخ” باقتحام الحرم الإبراهيمي، مع مئة من أتباعه، لإقامة شعائر الصلاة اليهودية فيه، وقد تجاوبت الحكومة الإسرائيلية حينها مع هذا التطور، بفرضها تقسيم الحرم بين اليهود والمسلمين، وإشرافها عليه. وبعد أربعة أعوام (2/10/1976)، قام أربعة من المستوطنين بدخول الحرم وتمزيق المصاحف ودوسها، ما أدى إلى اشتباكات بين أهالي الخليل والمستوطنين. أيضا، من أبرز المواجهات بين أهالي الخليل والمستوطنين يمكن الإشارة إلى قيام مجموعة تضم 50 امرأة، تتزعمهن زوجة الحاخام ليفنغر، في نيسان 1979 باقتحام مبنى هداسا(مدرسة) في الخليل والاعتصام فيه، ثم انضمت إليهم غيئولا كوهين زعيمة حركة “هاتحيا”(أيار 1979)، ما أثار مشاعر أهالي الخليل وجدد الصدامات بينهم وبين المستوطنين؛ وكانت النتيجة إبعاد رئيسي بلديتي الخليل وحلحول فهد القواسمة ومحمد ملحم، وقاضي الخليل الشيخ رجب التميمي. وفي 25/2/1994 قام الصهيوني باروخ غولدشتاين، وهو طبيب من أصل أمريكي، بتنفيذ مجزرة بشعة ضد مئات المصلين في الحرم الإبراهيمي حيث قتل بسلاحه الرشاش أكثر من 50 من المصلين وجرح العشرات منهم، وعلى إثر هذا التطور، أصدر مجلس الأمن الدولي قرارا بوضع قوة من المراقبين الدوليين في المدينة، تهدئة للخواطر ولتلافي أي عقبات تحول دون استمرار عملية التسوية. وفي العموم فقد تميز مستوطنو الخليل بالوحشية والعدوانية، إذ لم يتركوا أسلوبا إلا واستخدموه من الاعتداء الجسدي والقتل إلى إحراق وتدمير المنازل والسيارات والمزروعات والمحال التجارية؛ وذلك تحت سمع وبصر وحماية قوات الاحتلال. بعد اتفاق أوسلو، كانت مدينة الخليل عقبة كأداء أمام المتفاوضين، بسبب من أهميتها للطرفين، لذلك لم يتم الانسحاب الإسرائيلي منها، في إطار المرحلة الثانية من اتفاق أوسلو، كغيرها من المدن، وإنما بموجب اتفاق سمي “بروتوكول الخليل” تم توقيعه (للمفارقة) في ظل حكومة نتنياهو (17/1/1997). وتوجز عميرة هس حال مدينة الخليل وأهلها بالكلمات الآتية: “ليس من الغريب أن ثلث الـ 3400 وحدة سكنية في البلدة القديمة تم إخلاؤها من السكان مع مرور الوقت. معظم الشقق الفارغة توجد في المنطقة التي تقع تحت سيطرة المستوطنين المباشرة. 1500 محل تجاري مغلق منذ عشرين سنة تقريبا، الثلث منها بأوامر إغلاق عسكرية، والأخرى بسبب تنكيل المستوطنين ومنع الحركة التي تصعب على الإنتاج والتجارة وتردع المشترين والموردين من الوصول إليها.. القرارات المتعمدة والواعية لحكومات إسرائيل على أجيالها (بما فيها حكومة رابين التي عاقبت الفلسطينيين على المذبحة التي نفذها ضدهم باروخ غولدشتاين) وقرارات الجيش والإدارة المدنية والمستشارين القانونيين، هي التي مكنت “مجددي الاستيطان اليهودي في الخليل” من خلق هذا الوضع السريالي الآن.” ويمكن تفسير الاستهداف الإسرائيلي لمدينة الخليل بالآتي، أولا، بكون هذه المدينة تشكل ثاني أقدس مكان بعد القدس بالنسبة لليهود مع وجود الحرم الإبراهيمي. ثانيا، تبعية المستوطنات لتيارات إسرائيلية متطرفة ما يصعب معالجة موضوع الاستيطان فيها. ثالثا، احتواء جبال الخليل على واحد من أكبر الخزانات المائية في فلسطين، وهو يشكل موردا مائيا لإسرائيل. رابعا، في واقع أن إسرائيل تصر دوما في مقترحات الانسحاب على الاحتفاظ بسيطرتها على منحدرات جبال الخليل ونابلس ووادي الأردن لأهميتها الأمنية. المعركة القادمة على الخليل، لكن ماذا أعدت القيادات الفلسطينية لذلك؟
مشاركة :