الإحالة إلى التقاعد.. بداية لا نهاية

  • 12/31/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كثيرة هي المراحل التي يمر بها الإنسان في حياته، من بدايتها إلى نهايتها، وبعد رحلة من الكد والجهد والعمل الدؤوب، تلقى به السنون على أعتاب مرحلة جديدة، جديدة على البعض وغريبة على البعض الآخر، إنها مرحلة التقاعد أو سن المعاش بلفظها الدارج، وينظر البعض إلى تلك المرحلة العمرية وكأنها نهاية للرحلة وإيذانا بالرحيل، ولما لا تكون بداية معنوية لحياة جديدة، لا نهاية مأساوية لحياة قديمة، فلكل مرحلة من مراحل حياتنا طعمها وسحرها وربما يجد البعض من النبوغ والتألق والإبداع مالم يجده في مراحل عمره السابقة...والتقاعد مرحلة نعيشها ببلوغها أو نعايشها مع من بلغها لتمضي سُنّة الحياة، ضَعف ثم قوة ثم ضعف، فقد قال الله عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم: 54]، جيل يعقبه جيل لتتم سنة الاستخلاف، وعمارة الأرض، وهذا التصنيف الوظيفي متقاعد وغير متقاعد فرضته أنظمة العمل، ليحل موظف محل آخر، ولكنه ليس حكمًا على الإنسان بالموت، ولا منعًا له من العطاء في ميادين أخرى، فلئن ضعف بدنك فقد قوي عقلك، ولئن رق عظمك فقد زاد فهمك، ولئن لاح الشيب في رأسك فقد ظهرت الحكمة في رأيك. فلا تظن أن التقاعد دعوة للتقاعس عن الحياة، بل هو انتهاء مرحلة العمل الرسمي وبداية مرحلة جديدة من العمل الروحي والاجتماعي...يقول الدكتور عزت عبد العظيم الطويل أستاذ علم النفس بكلية الآداب جامعة بالقاهرة، (هناك عوامل تتعلق باستجابة الشخص للتقاعد منها، السن، والحالة الاقتصادية، ونوعية زملاء العمل، ودائرة الأصدقاء والمقربين، فكلما كانت مجموعة الأصدقاء والزملاء تنظر إلى التقاعد نظرة إيجابية، يكون التقاعد دون أدني شعور بالفقدان أو الاغتراب، ويصبح الشخص متوافقا قادرا على مواصلة حياته بشكل أكثر هدوءا وطمأنينة). ..وتختلف الأشخاص في تقبلها لفكرة التقاعد فمنهم من يرى أنها فرصة للتخلص من الروتين والتوتر والدوران في عجلة العمل، وفرصة لالتقاط الأنفاس والعيش بسعادة بالإكثار من الشعائر والعبادات ومودة الأهل والأقربين، تعزيز الصداقات القديمة وممارسة الهوايات المؤجلة ( الرياضة والقراءة، السفر والرحلات ما أمكن ذلك) والإقبال على الحياة بصورة أكثر شبابا وحيوية ونشاط مطبقين قانون (الحياة تبدأ بعد الستين)، ومنهم يرى فيها أزمة خطيرة حيث الفراغ والبطالة وقلة الفاعلية والشعور بالدونية في محيط أسرته والمجتمع الذي يعيش وبأنه أصبح عالة بعد أن كان عائلا. ويحذر علماء الاجتماع مما يعرف بمصطلح (متلازمة التقاعد) وهو يعبر عن حالة بعض المتقاعدين الذين كانوا يعشقون العمل، ويتشبثون بالوظيفة بشكل مبالغ فيه. ويعتبرون مرحلة التقاعد نقطة تحول سلبي في حياتهم، يترتب عليها المزيد من الخسائر، نتيجة لانخفاض الدخل مقارنة بالدخل أيام العمل، وكذلك خسارة النفوذ الذي كان يستمده الموظف من منصبه، بالإضافة إلى خسارة الهيبة التي كان يتمتع بها بين مرؤوسيه. وتصاحب مرحلة متلازمة التقاعد أعراض ومشاعر سلبية، حيث يمكن أن يصاب المتقاعد بالاكتئاب وربما بعض الأمراض الجسدية التي لم يكن يعاني منها أثناء العمل. إن متلازمة التقاعد تظهر أكثر وضوحًا عند من يشغلون مناصب إدارية وسلطوية وحيثما تذهب عنهم مباهج السلطة ومكاسب المنصب يذهبون في طي النسيان، الأمر الذي يؤثر عليهم كثيرًا من الناحية النفسية..وهناك بعض أنماط مختلفة للمتقاعدين يجب التعرف عليها وكيفية التعامل معها..1. أشخاص يعملون حبا في العمل، ويصاب هذا النوع إذا واجه قرار التقاعد أو اجبر على ترك العمل بالخوف والهلع لشعوره بأنه سوف يصبح غير نافع ويصاب عادة بالاضطراب النفسي ورفض كل ما حوله والشعور بالاكتئاب نتيجة لسلبيته ونظرته التشاؤمية للحياة وقد يكون خطرا على نفسه وعلى المحيطين به2. أشخاص يعملون حماية لذواتهم، ومن يعمل حماية لذاته ينظر للتقاعد على أنه فترة عزلة وحاجة ماسة إلى مسئولية الآخرين عنه، وهذا النوع يحتاج إلى الرعاية والتوجيه والإرشاد من خلال إدخاله في برامج توعوية للتعامل والتأهيل لهذه المرحلة، حتى يحصل على مهارات التعايش والشعور بالسعادة.3. أشخاص يعملون استقلالا بذواتهم، ومن يعمل استقلالا لذاته، فإنه عادة ما يختار وظيفته بنفسه، وهو من يقرر هل يستمر في العمل أم لا؟ وهؤلاء يرون أن التقاعد مرحلة جديدة أجدى روحيا وإيمانيا واجتماعيا ..وللتغلب على متلازمة التقاعد فإنه من الضروري القيام بعمل تخطيط لما بعد سن العمل الرسمي، ويتم ذلك بالتعامل مع هذه المرحلة على أنها بداية لحياة جديدة تتميز بالمسئولية المجتمعية وتوثيق أواصر المودة ورعاية الأسرة وخدمة المجتمع، وليس الانزواء بكامل الحياة خلف الحجرات المغلقة وعلى الاسرة البيضاء، فأول من يصنع السعادة إذا ما تقدم بنا العمر إيماننا وعلمنا وعملنا لدنيانا واخرتنا وخبراتنا ومعارفنا التي نقوى بها على مواصلة الحياة ولن يصنع السعادة وهناءة العيش الانشغال بثقافة الموت فمن درر القول وبليغ الحكم «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا».. لكن البعض لا يعمل لدنياه ولكنه ينتظر الآخرة على أطراف الحياة، ان الاختيارات "غير التقليدية" دائمًا ما تكون أسرع وأكثر فاعلية، ومع ذلك، تجد الكثير منا يجنح للاختيارات "التقليدية" التي تنهكنا بطولها وتعقيداتها، ولم ندرك أن كثيرًا من "القلق المنتظم" في حياتنا هو نتيجة طبيعية لقرارات تخلينا عنها بسبب الركون إلى فكرة السكون والعزوف عن الحياة...يخاطب أحد خبراء علم السلوك الانسانى للذين قاربوا الستين قائلا: آن لك أن تكافئ نفسك، وتستمتع بحياتك، آن لك أن تلتفت إلى الجمال من حولك بعد أن صرفتك عنه مشاغل الحياة! ثقْ بنفسك، وأعد تقديرك لذاتك، وابحث عن هدف يكسر روتين حياتك، ويشعل الهمة في ذاتك؛ فمن صعد الجبل حتى القمة، فإنه لا محالة سينزل مرة أخرى، ما لم يحدد قمة أخرى يسعى جاهدًا للوصول إليها واعلم بأن الإحساس بالشيخوخة حالة ذهنية، قد تصيب الكبير والصغير على حد سواء؛ فهي شعور داخلي كالشعور بالثقة أو الإحساس بالخوف من المجهول ..وللعقاد عبارة جميلة عندما بلغ الستين يقول: «كنت شيخا في الشباب فلا عجب أن أكون شابا في الشيخوخة، فسن الستين والسبعين إلى ما بعد الثمانين بل إلى آخر نفس في حياتك ليس سن إجازة مفتوحة وتعطيل كامل لدور الإنسان في الحياة، والوقوف على هامشها، طالما هناك عرق ينبض. فقد تبدأ حياتك في سن الستين وما بعدها وتكتشف ما عشته قبلها ما هو إلا هامش، فالكثير من الأدباء والعلماء والفلاسفة وضعوا خلاصة تجربتهم في سن متقدمة ربما تعدت الستين أو السبعين ..ولتجاوز تلك المرحلة والتي قد تكون عصيبة على البعض، نلفت النظر إلى بعض الأمور على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع قد يكون من شأنها أن تسهم في تفادى بعض المشكلات المرتبطة بمرحلة التقاعد ومنها: -1. حسن التنشئة وتنمية مبدأ الاعتماد على النفس منذ الصغر والتدريب على مواجهة الصعاب وتحمل المسؤوليات في مرحلتي الصبا والشباب والمبادرة والمشاركة في صنع واتخاذ القرارات في محيط الأسرة ودائرة العمل. 2. الأخذ بمفهوم التخطيط الوظيفي والمالي، بداية باختيار الوظيفة الملائمة بما تتوافق مع الميول والإمكانات الشخصية وهذا بدوره يجعل من العمل قيمة مضافة من الشخص لعمله والعكس، ويجعل من سنوات عمله سنوات منتجه ماديا وفكريا ووجدانيا وزادا لما بعد مرحلة التقاعد. 3. المشاركة الفاعلة في الأعمال الخيرية والتطوعية وتقوية الروابط الاجتماعية بالأهل والأصدقاء والمقربين، مما يُعد سياجا اجتماعيا يقي الفرد الشعور بالوحدة ويحميه من العزلة والانزواء 4. إعادة النظر في منظومة التأمينات والمعاشات لمعالجة الفجوة الكبيرة بين منظومة الدخل خلال فترة العمل وبعد مرحلة التقاعد، خصوصا وأن فترة التقاعد تتسم بزيادة الأعباء المالية والمسؤوليات الاجتماعية والأسرية.5. اسراع الوتيرة في تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل وهو ما يرفع الكثير عن كاهل المتقاعدين حيث تمثل الرعاية الصحية التحدي الأكبر لتلك المرحلة.6. مساهمة المجتمع المدني في توفير الرعاية والحماية لبعض الفئات من المتقاعدين، حيث إن عملية الرعاية والاحتواء يكون لها مردود إيجابي على الصحة النفسية وخصوصا ممن ليس لديهم أسرة تقوم على رعايتهم والاهتمام بشئونهم. إن الشعور بالطمأنينة والوصول للإحساس الصادق بالأمان لن يتحقق إلا بالاستقلالية الكاملة، الاستقلالية الفكرية بأن تكون قادرا على اتخاذ قراراتك، والاستقلالية المعنوية بأن تكون مدفوعا للإنجاز من ذاتك لتدعيم مكانتك الاجتماعية داخل العمل وخارجه بالعطاء ودون انتظار المقابل، والمبادرة بالتعاون، والمشاركة الإيجابية الفاعلة وتقديم العون لمن يحتاج إليه، وأخيرا الاستقلالية المادية لتستعين بها على متطلبات تلك المرحلة وتستغنى بها عن العوز والسؤال، وبذلك المفهوم المتكامل ستكون موضع ثقة وود وتقدير المحيطين بك، وسيقبلون الاعتماد عليك، وهذا هو أهم جوانب الأمان يقول ستيف جوبس مؤسس أبل: إن الحب كامن في قلب كل واحد منا، ومصيرنا يجب ألا يكون فقط الجري وراء أوهام الشهرة أو المال الذي تفنى من أجلهما حياتنا، إن ‏الثروة الحقيقية‬ التي ستبقى معنا هي حب من حولنا وهو الشيء الوحيد التي سوف يرافقنا وسيعطينا القوة لنكمل رحلتنا إلى منتهاها، المال قد يظل حبيس خزائنه أو قيد جيوب من يجمعه، لكن ‏الحب‬ يمكن أن يسافر آلاف الأميال وهكذا تصبح الحياة لا حدود لها.

مشاركة :