المعنى الصحيح للقبلية هو التنوع المفضي إلى التعارف، ومن التبسيط المخل التركيز على مفهوم العوام لمعنى القبلية كبداوة مفارقة للاندماج في الدولة المدنية. القابلية للعزلة القبلية موجودة في كل مكان كظاهرة عقائدية ومناطقية وفئوية وشللية انعزالية متعالية. في حقبة تاريخية ما يفتح الله على أمة تخلفت عن غيرها في العلوم والتطور الحرفي والصناعي والفكري بأن يسخر لها منها من يقنعها (وليس يجبرها) بالتحول إلى وضع أكثر أماناً معيشياً وأمناً دفاعياً قبل انطفائها الإقليمي والعالمي. مثل هذا حدث في جزيرة العرب قبل 1400 سنة ونيف، وقبل 100 سنة، ومثل ما حدث في اليابان وألمانيا وروسيا والصين وغيرها من الأمم على ضفاف التاريخ البشري. التحولات الاجتماعية الكبرى هي تلك التي تنقل الناس والأوطان إلى أحوال أفضل، والأفضل هو ما تتراضى به وعليه الأغلبية الاجتماعية. القناعات الفئوية المتناثرة في بقع اجتماعية غير متناغمة داخل نفس الوطن لا تشكل حضارة متماسكة منيعة على عدو محتمل من خارجها، لأنها مجرد تمصلحات بدائية أنانية. المهم هو توفر شرطين أساسيين لنجاح أي تحول اجتماعي نحو الأفضل، القيادة المستنيرة المستوعبة لأخطار البقاء في الماضي ولإلحاح الانتقال نحو المستقبل، ومعها مشروع التبصير والتثقيف الشعبي الشامل بمقارنة أحوال الوطن العلمية والتقنية والتعايشية بأحوال مواطني شعوب أخرى سبقت إلى مضامير الآفاق الآمنة. حكم مستنير وبرنامج تثقيف شعبي شامل لصنع التحول الإيجابي شرطان متلازمان لا يغني أحدهما عن الآخر لخوض ملحمة التحول التاريخية. أطلق الباحث السعودي في علوم التأثير المتبادل بين الإنسان والمكان والزمان (الأنثروبولوجي) الدكتور سعد الصويان صرخة (كانت موجودة قبله لكنها مبحوحة ومكتومة) أمام محاور سعودي تلفزيوني موهوب، وحسناً فعل الاثنان، أحدهما باختيار الضيف المناسب والآخر هو الضيف الأنثروبولوجي المعروف. أقول حسناً فعل الصويان لأنه أجج النقاش المفتوح على وسائل التواصل الشبكي، تلك المعجزة التي أتاحتها للعالم حضارة رائدة مغتلبة أجنبية بالكامل، فهي ليست محلية ولا عربية ولا إسلامية، هي حضارة تفكر وتستثمر وتصنع وتقايض منتجاتها الباهرة لمن يدفع ويقايض بما عنده من ثروات الأرض. اتضح من التفاعلات والانفعالات حول تلميحات وتمليحات الصويان وجود مختلف القراءات المحلية، منها المحبذ من دون تحفظ، والرافض من دون تردد، والمتشكك البين بين، وكلها كما أعتقد بتواضع تنطلق من عوامل اختلاف واختلاط الحصيلة المعرفية والثقافية عن مفاهيم التقدم والتخلف والأصالة والحداثة وشرطية احترام النفيس من التراث الذي يجب الاحتفاظ به وفرزه عن المهلهل البالي الذي يجب التخلص منه. من بين الآراء المتترسة الوجلة كانت بعض التعليمات من منطلقات المصالح الفردية مدسوسة داخل غلاف الغيرة على الهويات الجامعة، لكن القارئ والسامع الحصيف يستطيع كشفها بسهولة. المدسوس الانفعالي الذي لا يفصح عن دوافعه يحمل آفة فساده في افتقاد القدرة على الإفصاح العلني عنه. نلتقي في المقالة القادمة بشيء من التفصيل مع أهمية وضع المواطن السعودي أمام الواقع بطريقة التثقيف المقارن، أي بتحليل عناصر القوة والضعف الحضارية الخاصة وما أنجزته من أسباب السيادة والمنعة ومن انتصارات أو هزائم، مقابل إنجازات الثقافات الحضارية المختلفة في العالم، وخصوصاً في مثل هذه الأزمنة المهووسة بالسباق العلمي والتقني الكوني التي نعيشها الآن.
مشاركة :