يعتبر المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير أول من عرّف بالشاعر العربي أبو الطيب المتنبي في الثقافة العالمية، وكان من شدة ولعه به أن قدم أطروحته للدكتوراة بعنوان «ديوان المتنبي في العالم العربي وعند المستشرقين»، 1935. يقول بلاشير في مقال له إن سبب خلود المتنبي “كونه ممثلا للعبقرية العربية المتعصبة في وجه العبقرية الأعجمية” وهو يشير هنا إلى أصالة الشاعر المتنبي وانتمائه وفخره الشديد بعروبته وكيف أن هذا الارتباط الوثيق بينه وبين عروبته وأصالته جعله خالدًا في ذاكرة الشعر والتاريخ والأدب ، وقال الشاعر السوري أدونيس في مقدمته للشعر العربي يصف المتنبي بما يليق به ” إنه جمرة الثورة في شعرنا، جمرة تتوهج بلا انطفاء ” وفي ذات السياق يقول الأديب والمترجم اللبناني منير البعلبكي في قاموسه المورد “إن المتنبي أصبح أشهر شعراء العرب لأنه فهم أسرار النفس البشرية، وصاغ تجاربه حِكَمًا جرت مجرى الأمثال” وهذا يتضح جليًا في كثيرٍ من قصائده وفرائد حِكمِهْ ! فهو الذي يقول :لا يَسلَمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذىحتى يُراقَ على جوانبِهِ الدَّمُ وهو من قال :ذو العقلِ يشقى في النعيـمِ بعقلهِوأخو الجهالةِ في الشقاوةِ يَنْعَمُ ويقول عن الهوان :مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهوانُ عليهِ ما لجرحٍ بمـيِّتٍ إيلامُ أما الكاتب المصري أحمد عباس صالح فقد قال عن المتنبي في مقالة له نُشرت عام 1994 “نحن إلى اليوم نعجب بشعر المتنبي، ونحفظه، ونتأمل بعض أبياته بدهشة لأنها تجسد أمامنا تجربة فكرية أو انفعالية على أعلى مستوى من حيث الصياغة والتجربة فهو حينما يقول:كفى بك داءً أن ترى الموت شافيًاوحسب المنايا أن يكنّ أمانيا إنما ينقل المتلقي فجأة إلى تجربة مخيفة قد يكون مر بها، ويجعله يتوقف عند هذه الصياغة العجيبة، وعند ثراء الشاعر بالتجارب العميقة ويتأملها في دهشة، ويرددها بإعجاب ورضا” والسر في رأي أحمد صالح كَمُنَ في الصدق والمشاركة والإنسانية في الشعور ! و اعترف الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش بأن كل الذي أراد قوله شعراً، سبقه إليه المتنبي بنصف بيت:على قلق كأن الريح تحتي! يقصد أبياته الشهيرة :فما حاولت في أرض مقاماولا أزمعت عن أرض زوالاعلى قلق كأن الريح تحتي أوجهها جنوباً أو شمالاوعن سرّ خلود المتنبي وبقاء شعره وذيوع صيته بكل هذا الألق وكل هذا التجلّي والتفرّد يقول الأديب الراحل الشاعر غازي القصيبي ” أنه يعجب عندما يقول الناس عنه أنه شاعرٌ حكيم ويصف قولهم هذا بأنه ( سخيف ) ويشير بأن ( لامية ابن الوردي ) بمفردها تحمل أضعاف أضعاف ما رُوي عن المتنبي في الحكمة ، وكذلك الأمر بالنسبة لمقصورة ابن دريد ! ويتحدث عن السر الحقيقي في روعة وبهاء وبقاء شعر المتنبي أنه يكمن في الصدق المُفرط في تعابيره عن حياته وحياة الآخرين وخروج تلك المعاني من رحم المعاناة والتجربة الحقيقية وإدراكه لطبيعة الفن ” من هنا يظهر لنا أن المتنبي لم يكن يفخر لمجرد الكبر والزهوّ والغرور ولم يحظَ شعره بهذه المكانة وهذا التفرُّد مصادفةً ! وإنما كان افتخارهُ صدْقًا وكانت حِكمتُه نابعةً عن تجرُبةٍ صادقة تحكي واقعه وواقع من عاصرهم وجايلهم لذلك كان حال الدهر معه :وما الدهرُ إلا من رواة قصائديإذا قلت شعرًا أصبح الدهرُ منشداوكان حالنا معه ومع شعره:أنام ملء جفوني عن شواردهاويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ أ. عبدالعزيز بن إبراهيم طياش
مشاركة :