لم تكن موهبة المتنبي العالية كافية لتخليده، فثمة شعراء آخرون حظوا بالموهبة ولكنهم لم يخلّدوا، بالصيغة والحفاوة التي حظي بها المتنبي، تلك التي جعلته حاضرًا في المشهد الثقافي العربي أكثر من عشرة قرون، فالموهبة وحدها لا تكفي لمثل هذا الحضور، ناهيك عن عبور الأزمنة، فما هي الأسباب الأخرى التي ميّزت المتنبي عن غيره؟ إنها مادة الشعر التي تتطلّع إلى الإنسان المثالي الأعلى، فهو كان يتعرّض لدور القيم الأخلاقية الرفيعة في حياتنا، ويهتم بالكرامة كسمة رفيعة لا يجب أن نفرّط بها أو نتهاون، والكرامة هي ثيمة عامة في الشعر والأدب، وعلى الأخص في الأدب الحديث الذي تلازم مع ثقافة حقوق الإنسان التي لاقت انتشارًا واسعًا في عصرنا. لقد جُبل الإنسان على الاعتداد بكرامته وصونها، وعلى رفض الذل والمهانة، التي تكدّر عيشه، وفِي ذلك يقول في أحد قصائده: غثاثة عيشي أن تغث كرامتي / وليس بغثٍ أن تغث المآكل. وبشكلٍ عام سنلاحظ أنه يدور في هذا الفلك، وحول هذه الثيمة فيدعونا لرفض المهانة التي تحط بكرامة الإنسان، وبشكلٍ قاطع قائلاً: من يهن يسهل الهوان عليه / ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ، فإذا أنت قبلت المهانة مرة قبلتها مرات، وإذا قبلت المهانة الصغيرة، ستقبل بعدها المهانة الكبيرة، ثم تعتاد مع الوقت على العيش معها بحيث لا تشعر بها. وهي أسوأ حالات الإذلال والعبودية التي من الممكن أن يصلها الإنسان، والمتنبي في هذا القول يعتمد على حقيقة أثبتتها التجارب الواقعية في الحياة، فالذليل لا يشعر بالمذلة بمرور الوقت بحكم التعود. وإذا كانت هذه الحالة تصح عند الإنسان الفرد، فهي تصح عند الجماعة. يحض المتنبي البشر في شعره على صيانة كرامتهم ورفض الذل والإذلال، وتنتشر هذه الثيمات في أشعار المتنبي أينما ذهبت وتنقّلت في ديوانه، فهو يقول مثلاً في قصيدة أخرى: وإني لمن قومٍ كأن نفوسهم / بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما / فلا عبرت بي ساعةٌ لا تعزني / ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما. ومع المتنبي نحن في ضيافة شاعر خبر الحياة وتفحّصها بعيون ثاقبة تسبر طباع البشر وتكوينهم الاجتماعي والنفسي وموروثهم الأخلاقي الجماعي، فالمجتمع العربي الذي ينتمي إليه شاعرنا، كان منذ العصر الجاهلي يعلي شأن الكرامة ولا يقبل خدشها أو مسّها، وكان الاعتداد بالنفس عاليًا عند العرب منذ القدم، والاعتداد بالنفس صنو الكرامة، ودعامتها، فالذي لا يعتد بنفسه لا يصون كرامته ولا يحميها، ونرى هذا التوجه عند الشاعر العربي الجاهلي عمرو ابن كلثوم الذي يقول: ملأنا البر حتى ضاق عنا / ونحن البحر نملأه سفينا / إذا بلغ الرضيعُ لنا فطامًا / تخر له الجبابر ساجدينا. ويقول الشاعر أبوفراس الحمداني مفتخرًا: ونحن أناسٌ لا توسّط عندنا / لنا الصدر دون العالمين أو القبر. ولا يذهب المتنبي بعيدًا عن ثيمة الكرامة والعزّة والاعتداد بالنفس والرفعة، فهو يقول في مكانٍ آخر: عش عزيزًا أو مت وأنت كريم / بين طعن القنا وخفق البنود / وأطلب العزَ في لظى / ودع الذل ولو في جنان الخلود. ومع هذه الثيمة الإنسانية التي يسبكها المتنبي في بيان لغوي رفيع ومؤثر، وانطلاقًا منها، وتآخيًا معها يرى أبو الطيب بأن الموت بالعزّة والكرامة أفضل من العيش في المذلّة والخنوع، فيقول: وإذا لم يكن من الموت بدٍ / فمن العار أن تموت جبانا. وظل المتنبي يدور في أقاليم البشر وأحاسيسهم، ويسكبها في لغة جميلة، فإن انتهى من ذلك ذهب إلى الطموح عند الإنسان، والطموح له نصيبٌ وافر في شعر المتنبي، وكان هو نموذجًا حيًّا للطموح، ولا يقبل المتنبي طموح الصغار، ففي هذه الحياة التي لا تعرف إلا الأقوياء يجب أن نكون أقوياء وكبارًا في طموحنا، يقول: إذا غامرت في شرفٍ مروم / فلا تقنع بما دون النجوم / فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ / كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ. ويظل المتنبي مراوحًا في صفات الإنسان الأعلى مرفوع الشأن، عالي الهمة، بعيد النظرة، متجولاً في فضاء الإنجازات الكبيرة، تاركًا الأهداف الصغيرة للصغار الذين يرون مجدهم فيها، فيما العظيم لا يقبل بالقليل: (وتعظمُ في عين الصغيرِ صغارها / وتصغرُ في عين العظيم العظائم).
مشاركة :