لكل منا كاتبٌ معيّن ترك أثرًا كبيرًا في نفسه، وأحيانًا قد يكون هناك أكثر من كاتب وكتاب، وفِي هذه الحالة فنحن لا نترك هذا الكتاب الذي أحببناه جانبًا ونكتفي منه بقراءة واحدة، كما نفعل عادة مع الكتب الأخرى، إذ تبدأ صحبة راسخة بيننا وبين هذا الكتاب، تستمر سنوات طويلة وقد تمتد عقودًا؛ نعيد فيها قراءة هذا الكتاب، وسنجد أننا نحظى بنفس المتعة التي أحسسنا بها في القراءة الأولى. وسنجد أيضًا أننا لا نشعر بالملل الذي يحدث عادة عندما نعيد القراءة. وكان المتنبي هو الذي نال إعجابي من الوهلة الأولى التي قرأتُ فيها ديوانه الشعري، فكانت تلك القراءة الأولى بداية رفقة طويلة إمتدت عقودًا، ولا زالت مستمرة، ففي مكتبتي عدة كتب للمتنبي وعن المتنبي، ويحلو لي أن أعود إلى واحدٍ منها بين وقتٍ وآخر. وهذا الأمر ليس غريبًا كما كنت أظن في البداية، فقد إكتشفت مع الوقت أن للمتنبي عشاقًا كثيرين في الوطن العربي. والمدهش في كتاب المتنبي وشعره أنه لا يبلى مع الزمن، وكأنه هو الزمن ذاته، ولذلك أسبابٌ كثيرة من أهمها جودة الصياغة الشعرية وعمق المعاني والأفكار؛ أي مادة الكتابة ومضامينها، فالمتنبي كان مثقفًا موسوعيًا، درس اللغة العربية على يد علماء اللغة وفطاحلها في زمانه، وعاش مع البدو في الصحراء ليكتشف اللغة العربية الصافية، فكانت تشبيهاته في اللغة مبتكرة تخصه وحده، وأنت تشعر بذلك عند قراءة أشعاره. وكان المتنبي شاعرًا استثنائيًا قلّ إن يجود الزمان بمثله، فهو عالي الموهبة شاهقها، ويمتاز بذكاءٍ ثاقب وذاكرة لمّاحة حافظة للشعر، حتى إعتبره النقاد القدماء والمحدثين، أفضل شاعر عربي عبر العصور. ومن حسن حظ المتنبي أنه عاش في فترة مزدهرة بالثقافة، في القرن الميلادي العاشر، الذي إزدهرت فيه ترجمات واسعة للعلوم والفلسفة اليونانية القديمة، وكان شاعرنا ينهل من كل هذا المعين الخصب، لذلك فشعر المتنبي الملئ بالمعاني كان يغوص عميقًا في الحياة ومفارقاتها وظواهرها العديدة والمعقدة، فكانت مادته الشعرية تتشكل من هذا المزيج، بعد أن تملّك الموهبة الفذة، فجاء شعره أقرب إلى الفلسفة ومتلبسًا بالحكمة، فنال انتشارًا واسعًا في زمنه، وفِي القرون التي تلت. ورغم مرور أكثر من ألف عام على شعر المتنبي إلا أنه لا زال حيًّا متجددًا حاضرًا بيننا، وتؤلف عنه الكتب والدراسات والبحوث وتتردد أبياته الشعرية على الشفاه، وقد تحوّل الكثير منها إلى حكمٍ سائرة وأمثال متداولة حتى زمننا هذا؛ مثل قوله: ما كل ما يتمنى المرء يدركه / تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وفي أبياتٍ أخرى: وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ / فهي الشهادة لي بأني كاملٌ، و قوله: ذوالعقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم، وقوله من يهن يسهل الهوان عليه/ ما لجرحٍ بميتٍ إيلام، و: إذا نظرت نيوب الليث بارزة / فلا تظنّن أن الليث مبتسم، وهناك أبيات أخرى عديدة انتشرت واشتهرت وتداولتها وتناولتها الأجيال المتعاقبة. وبقاء المتنبي حيًّا كل هذه القرون وبهذا الوهج يحيلنا إلى طبيعة الأدب وصلابته وخلوده، فمن يستطيع غير الكتابة مقارعة الزمن الذي يقضي على كل المخلوقات، ويفني الملايين، ثم يقف عاجزًا أمام الكتابة. والمتنبي الذي عاش في القرن العاشر الميلادي الصاخب، الذي حدثت فيه الانقسامات السياسية بعد انهيار الدولة العباسية، وظهور الدويلات الصغيرة، كان يروي هذا المناخ المضطرب والزمن الذي تدخلت فيه الأقوام الأجنبية على العرب، فكان شعره سجلاً تاريخيًا لهذا الصراع والانقسام، كما كان معبرًا عن المرحلة. وشاعرنا الذي كان يعتز بعروبته ويتفاخر بها ويتألم من سيطرة الأعاجم على شؤون الحكم في ذلك الوقت، هو من مواليد الكوفة بالعراق، وكان أبوهُ سقّاءً يبيع الماء في الكوفة، ووجد حسّاد المتنبي في ذلك فرصة للإقلال من شأنه ومكانته ونبوغه في الشعر وتفوقه عليهم، وكان هذا التحقير من حساده يغيضه، فيغضب هو الذي يعرف أنه أرفعهم موهبة وأعلاهم شأنًا، وأمضاهم شهرة، حتى أن الأمراء كانوا يحاولون استمالته لمجالسهم ليقول فيهم شعرًا يخلّدهم في التاريخ؛ فلجأ المتنبي إلى الشعر يذود به عن نفسه فقال: لا بقومِ شُرفتُ بل شرفوا بي / وبنفسي فخرت لا بجدودي.
مشاركة :