ارتحل المتنبي كثيرًا في حياته، فتنقل بين الشام ومصر وفارس، ورافق أمير حلب سيف الدولة الحمداني تسع سنوات ونصف، وكان سيف الدولة يشتبك في حروب تاريخية طاحنة مع الروم مدافعًا عن الثغور العربية في الشمال، بعد أن تفككت الدولة العباسية، فكان سيف الدولة بطلاً قوميًا في نظر المتنبي، الذي كان يفخر بانتمائه العربي، ويتألم لهذا الضعف والتدهور الذي أصاب الدولة العباسية في القرن العاشر للميلاد، وكان كلٌ من المتنبي وسيف الدولة معجبين ببعض، ولكلٍ منهم أسبابه، فالمتنبي كان معجبٌ بسيف الدولة لدفاعه عن العرب والمسلمين، وسيف الدولة كان معجبًا بالمتنبي على موهبته الرفيعة وشعره، فأجازت هذه الرفعة والصداقة للمتنبي أن يتلو قصائد المدح في بلاط سيف الدولة وهو جالس، وكان ذلك مخالفًا للعرف في بلاط الأمير، فكل الشعراء كانوا يتلون قصائدهم وقوفًا، كما كان امتيازًا وتمييزًا للمتنبي عن باقي الشعراء، ما أوغر صدورهم عليه، فحاولوا التفريق بين الصديقين. ثم وجدوا لهم منفذًا، فقد كان المتنبي ذا كبرياء واعتداد بالنفس، فهو على عكس بقية الشعراء كان يتفاخر بنفسه في القصائد التي يمدح فيها الأمير، وعادة التفاخر والاعتداد بالنفس كان واضحًا في قصائد كثيرة للمتنبي، فهو يقولُ متفاخرًا في أحد قصائده: أمط عنك تشبيهي بما وكأنه / فلا أحد فوقي ولا أحد مثلي، وفِي قصيدة أخرى يقول: وفؤادي من الملوك وإن كان لساني يُرى من الشعراء، وهو القائل: أي محلٍ أرتقي/ أي عظيم أتّقي / وكل ما قد خلق الله / و ما لم يخلق / محتقرٌ في همّتي كشعرة في مفرقي. وكان قد سبق للمتنبي أن قال في قصيدة يمدح فيها سيف الدولة في بلاطه: سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا / بأنني خير من تسعى به قدمُ. وكل هذه الأبيات كانت كافية ليصدق سيف الدولة ما زعمه حسّاد المتنبي من أنه (المتنبي) يرفع نفسه فوق الأمير ويتعالى عليه. وكان المتنبي طموحاً بشكلٍ ملفت، فهو يقول في أحد القصائد: إذا غامرت في شرفٍ مرومُ / فلا تقنع بما دون النجوم، وفِي بيتٍ آخر قال متفاخرًا بنفسه: تحَقرُ عندي همّتي كل مطلبٍ / ويقصر في عيني المدى المتطاول، كما أنشد يقول: ودع كلُ صوتٍ غير صوتي فإنني / أنا الطائرُ المحكيُ والآخرُ الصدى، وهناك الكثير من الأبيات والقصائد التي تؤكد هذا الشعور بالتفوق والتميّز على أقرانه من الشعراء، فوصموه بالغرور، والأرجح أن المتنبي كان عزيز النفس عالي الكبرياء، وبين الغرور والكبرياء شعرة، وهذا الكبرياء كان واضحًا في سلوكه وشعره، فحين صد عنه سيف الدولة، بعد أن صدّق دسيسة حسّاده، يمم وجهه شطر مصر، حيث استضافه الملك كافور الأخشيدي مرحبًا به. لم يقبل المتنبي الضيم والصدود وإن جاء من الأمير سيف الدولة. فليس ببعيدٍ أن يكون الحسّاد قد أبلغوا سيف الدولة بأن المتنبي في قصائده يرفع مقامه فوق مقام الأمير. وكان المتنبي من دون الشعراء، حين يمدح الأمراء والملوك والسلاطين في كلِ بلاط ومجلس يمدح نفسه أيضًا في نفس الوقت، وفي نفس القصيدة، لأنه يعرف حجم موهبته التي رفعته في مجلس سيف الدولة وأمراء آخرون في مصر والشام وفارس، وكان سيف الدولة يجزل العطاء للمتنبي بأضعاف ما كان يعطيه الشعراء الآخرون. وكانت القصائد خصوصاً للشعراء الفحول مثل المتنبي توزن بالذهب في ذلك الوقت، فالشعر كان وسيلة الإعلام الوحيدة المتوفرة والأكثر انتشارًا ورواجًا في الوطن العربي، فكان الشعر يرتحل مع الركبان والمسافرين والأدباء والنقاد والحفاظ، إلى الأقطار العربية في المشرق والمغرب، وكانت قصائد الشعراء تخلّد الملوك والأمراء أيضًا، خصوصًا عندما تكون هذه القصائد لشعراء كبار مثل المتنبي، فهي تعبر الأزمنة والأمكنة. ويتم تداولها وحفظها وانتشارها بسرعة، فالمتنبي يعرف أن الشعراء قبله قد خُلّدوا وخُلّد معهم ممدوحيهم. وكان المتنبي يعرف أن شعره سيبقى خالداً، ويظهر ذلك جليًا في بيتٍ يقول: وما الدهر إلا من رواة قصائدي / إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا. وبالفعل، ارتحل شعر المتنبي من القرن العاشر الميلادي إلى عصرنا الحديث، وسيرتحل دون شك في القرون القادمة، فهذا الشعر أصبح تراثًا قوميًا للعرب يتوارثونه جيلاً بعد جيل.
مشاركة :