كلما قرأت شعرا مترجما، يساورني الشك في دقة الترجمة وأتساءل إنْ كان النص المترجم الذي أقرأه، هو النص ذاته الذي كتبه الشاعر بلغته الأم، وما أذكره مما مرّ بي من مواقف تذهب بي إلى الشك بالشعر المترجم، وتُغلب عندي الشك على الاطمئنان، أذكر منها ما يتعلق بترجمة شعر الشاعر الإسباني غارثيا لوركا، فحين وصلت إلى مدريد في بدايات سبعينات القرن الماضي، كنت أظن أنني أعرف شعر لوركا، لأنني كنت قد قرأت معظم ما كتب عنه وما ترجم من شعره أيامذاك إلى العربية، مع أن الكثير مما ترجم من شعره إلى العربية كان من ترجمات إنجليزية أو فرنسية أو روسية أو إيطالية، وما ترجم عن اللغة الإسبانية كان قليلا ونادرا. وإذ كنت أتحدث مع المستعرب الدكتور بدرومار تينثمونتابث عما قرأت من شعر لوركا، مما ترجم إلى العربية، فاجأني بالقول: إن الكثير مما ترجم من شعره إلى اللغة العربية يكاد يكون ليس من شعره، فأجبته وأنا في ذروة المفاجأة، ولم لا تقول هذا في المنابر العربية، فأجابني قائلا: أنا إسباني ويهمني أن يكون لوركا معروفا عند القراء العرب. كما أذكر موقفا آخر يتعلق بترجمة الشعر، إذ التقيت في بغداد بمستعرب من رومانيا يرافقه شاعر روماني، وكانا قد ترجما مختارات من قصائدي إلى اللغة الرومانية، ضمها كتاب متواضع الطباعة، ودار حديث بيننا، ومن باب المجاملة وحب الاطلاع في آن واحد، طلبت من المستعرب أن يقرأ قصيدة من القصائد المترجمة، بإعادتها إلى لغتها الأولى -العربية- وحين فعل ذلك، وجدت أن ما قرأه يكاد يكون بعيدا عن قصيدتي، حتى على صعيد قاموسها اللغوي، وما ذكرته آنفا، جعلني غير مطمئن لما أقرأ من شعر مترجم، وصرت أنظر إلى المترجم من شعري، سواء نشر في صحيفة أم في دورية، أم في كتاب، بشيء من الريبة والتوجس. وعن ترجمة الشعر يقول صديقي الشاعر والناقد علي جعفر العلاق “في الترجمة ثمة منازلة غير مضمونة العواقب بين المترجم والقصيدة التي يتصدى لترجمتها، وهذه المنازلة تمثل مجد المترجم ومحنته، وكلاهما يعكسان فعل الترجمة أو محصلتها التي لا تحمد دائما، لكنها تحظى أحيانا باحتفاءات نادرة وعميقة. قرأت أخيرا كتابا بعنوان “مولانا جلال الدين الرومي.. القصائد المحرمة في العشق الإلهي والهرطقة والخمريات” وقد قامت بترجمة القصائد من الإنجليزية لمى سخنيني وراجعها الشاعر عمر شبانة، وضم الكتاب مقدمة المترجمة بعنوان “حول ترجمتي هذه عن الإنجليزية” و”سيرة مختصرة لمولانا جلال الدين الرومي”، ومقدمة مترجم القصائد من التركية إلى الإنجليزية ويل جونسون، وكانت خاتمة الكتاب بقلم نيفيت آرجين ونشرت قصائد الكتاب تحت ثلاثة عناوين، الأول، أغنيات لشمس.. أغنيات لله، الثاني، أغنيات للنصيح.. أغنيات للعتاب، الثالث، أغنيات مهرطقة. تقول لمى سخنيني وجدت هذا الديوان، وهو مجموعة قصائد باللغة الإنجليزية، عنوانها “قصائد الرومي المحظورة عن العشق والهرطقة والسكر” ترجمها عن التركية إيفيت آرجين وويل جونسون، وفي ترجمتي هذه تحققت من المصطلحات الصوفية من مصادر موثوقة ومن آيات القرآن الكريم وأرجعت الأسماء إلى أصولها العربية. وما ترجمته لمى سخنيني، هو الجزء الثالث والعشرون من كتابات جلال الدين الرومي الشعرية، وكان آرجين قد ترجم اثنين وعشرين جزءا منها إلى الإنكليزية، وتم نشرها بدعم تركي حكومي، ثم توقف هذا الدعم ولم يشمل الجزء الثالث والعشرين. وجلال الدين الرومي من مواليد عام 1207 الميلادي في مدينة بلخ التي تقع الآن في أفغانستان، وكانت لغته الأولى الفارسية القديمة، ثم تنقل في عدد من مدن العالم الإسلامي طلبا للمعرفة، ودمشق من أهم المدن التي أقام فيها وتعلم في معاهد العلم فيها، على أيدي الأفذاذ من فقهائها وعلمائها، وكانت مدينة قونية التي تقع الآن في تركيا هي المدينة التي استقر بها ومات فيها وما زال قبره في حي من أحيائها القديمة. لقد عاش مرحلتين، الأولى، قبل أن يلتقي القطب شمس الدين التبريزي، حيث كان قد انصرف للعلوم الفقهية، والثانية بعد أن التقاه ودخل مدخل التصوف، وحين قتل التبريزي، ذهب بعيدا في جموح العشق وعالم الموسيقى والشطح والغناء، وبلغ ما روي عنه من قصائد العشق أكثر من أربعين ألف قصيدة. وكان يتكلم الفارسية والتركية والعربية وأنشد شعره باللغات المذكورة، وهذا ما أكده الدكتور حسين محفوظ وكان يحتفظ في مكتبته بما أنشده الرومي من شعره باللغة العربية، والرومي وهذا ما أشارت إليه السيدة سخنيني، لم يكتب الشعر كما يفعل الشعراء، بل كان ينشده فيتلقاه عنه مريدوه. ورغم الجهود التي بذلتها المترجمة، إلا أن النصوص لم ترتفع إلى مستوى وهج الشعر الصوفي بعامة وشعر الرومي على وجه خاص في المثنوي بترجمة الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، ولهذا سببان، الأول، إن معظم النصوص في الكتاب تعتمد الفكرة، وشعر الفكرة يفقد الكثير من سماته الجمالية في الترجمة، والسبب الثاني، إن أي عمل شعري يمر بسلسلة من الترجمات لا يمكن أن يظل محتفظا بسمته الأولى في لغته الأولى، وهذا الكتاب، ترجم من اللغة الفارسية القديمة إلى التركية الحديثة ومنها إلى الإنجليزية ومن الإنجليزية إلى العربية، لذا كان أقرب إلى القول الفكري منه إلى جوهر الشعر.
مشاركة :