لم تعد معنياً بشيء.. هل كنت كذلك؟ ولم تعدْ تهتم بما كنت تريده أو تتوقعه ذات يوم.. هل سيأتي؟ أم هل غاب إلى الأبد؟ ها هي الحياة تفتح أبوابها لك إلى ما يشبه أبواب الوطن عندما يحتفي بأبنائه.. يحتضنهم.. يُجدد محبته لهم.. كلما عادوا إليه.. وكلما تورطوا في الهروب منه.. يقرأهم سلفاً.. وهو يعرف أنهم ذاهبون إلى وهم ولكنهم عائدون إليه.. ذات يوم.. ربما تلامس قربه وربما لاتراه الآن..! ماذا كنت تتوقع؟ وهل من المفترض أن يكون التوقع على قدر ما سوف يتحقق؟ ولماذا نغيّب تلازم التوقع مع الخيارات الصحيحة وارتباطها الأساسي بأزمة الوعي.. الذي يساهم إيجابياً في تحديد ملامح الطريق.. وتحسين السير بدلا ًمن السقوط في هاوية واضحة.. ولكن غابت وضاعت رؤيتها لارتباطها المحوري برؤية مسبقة للطريق وهي في الأصل وهمية..! عندما نكتب عن دواخلنا قد لا نلامسها وقد لا نصل إليها.. ولكن قد نفك رموزها ونعيد إليها حضورها.. ونخرجها من متاهات اغترابها الوقتي.. وتلك اللحظات الماضوية التي تعتبر خارج سياق منظومتها واعتيادها وخصوصيتها التي اعتادت أن تتعامل مع الأشياء على أنها أشياء والحلول بمسمياتها.. والصور بتفسيراتها الحقيقية.. والمواقف بما تفعله في البشر.. وما تعكسه عليهم.. دون القياس على تلك النقطة البعيدة الهاربة من الصورة.. والغائبة عنها.. والتي تحتاج إلى بحث ومع ذلك قد يتعذر الوصول إليها..! لست معنياً بأي شيء.. هل تعيش لحظات التجرد والابتعاد عن كل قراءة مستقاة من واقع مرير؟ هل عليك أن تتمرد على الواقع وأنت المغموس فيه وكأنه المكان الوحيد المستقل والذي ليس عليك أن تفارقه؟ كثيرة هي الأسئلة التي لاتحمل أجوبتها.. ولاتهتم بالوصول إليها أو معرفتها.. أو حتى تفسير عدم رغبتك في البحث عن إجابات.. هل لأنّ الإجابة ستكون عبثية.. وستزيد الموقف تعقيداً؟ أم لأننا اعتدنا على الكثير من الغياب في الأجوبة والكثير من التهميش للحظات البحث عن ذلك؟ لست متورطاً في الغياب عن ذاتك وأنت المحاط بها والملامس لتفاصيلها والسامع لصوتها في أشد لحظات الألم.. والوجع..! ولست محبطاً من شيء ولكنك في مكانك هادئاً رائقاً تستمتع بشريط الذاكرة.. بل بشرائط الذاكرة التي تفتح أفقاً يتسع للمدى.. به بعض التقاطعات.. تستمرئ فيه كل الصور.. وتمزق فيه كل الملفات.. وتتعامل مع الثابت بموضوعية وعدم اكتراث.. مشكلة الذاكرة أنها أكثر وجوداً من الواقع.. ولكنها في الوقت نفسه لاتستنسخ نفسها.. تمسح ملفاتها عندما تقرر أنت أن تعطيها الأوامر.. حتى وإن ظلت تتوهم أنها ذلك المكان الآخر أو المتواري للواقع..! تمسح الذاكرة كل شيء عندما تتمتع بذلك المزاج العالي في أن تكون أنت.. وفي أن تقفز على السلالم الصغيرة ولاتمشي..! تمسح الذاكرة ولاتغيّب لأنك أنت من يعطيها الأوامر.. تمسح كل شيء هل لأنك لاتحتاجه ولاتريد العودة إليه.. أم لأنه أصبح يشكل ذلك الوجود العبثي الذي تحتاج الذاكرة لأن تحتفظ بما هو أهم منه..! أهمية الذاكرة تكمن في أنها لاتتحمل مالا يمكن أن يبقى بعد انتهاء صلاحيته.. ولايمكن ترميمها بالخيبات.. ولايمكن بناؤها بحكايات المدن العابرة.. ولايمكن تحصينها بصور غير مهمة أو مفهمومة تفوق إمكانية احتفاظها بالأهم..! في الحياة ليس أحياناً ولكن دائماً عليك أن تستوضح نفسك قبل أن تعرف الآخرين.. وعليك أن تصرف الذاكرة لتلك المسارات التي قانونها حفظ ذلك الإرث الذي تتمسك به وتخاف عليه وهو أيامك وصورك وما تريده بقانونك وضوابطك..! لاتصدق من يقول إنّ الذاكرة تخون وتستلهم الصور القديمة فهذا صحيح.. ربما تمر منها أحياناً ولكنك تكتشف أنك لاتعرفها ولاتنتمي إليها ولاتتذكر منها شيئاً.. لاتسألها لماذا عبرت فهي تعبر لتخرج.. وإن عادت مرة أخرى فستكتشف أنك لاتعرف من هي هذه الصور ولست معنياً لتحديد هويتها..! نعيش لننسى.. أن نعيش لنغيّب الصور والناس والملامح.. فالأرض شاسعة.. والأيام ممتدة.. والتاريخ كتابه مفتوح تخطُ فيه ما تشاء.. دون أن تتهمه بأنه ساهم في حدث مفقود..! بي حنين إلى نفسي وروحي.. وبي انتماء إلى ذاتي.. جارف يغيبني ويبعدني عن كل شيء.. من حولي.. بي حنين لداخلي يضيء كل لحظة كملامح الذهب.. ويلمع كالفضة.. محملاً برائحة البحر والاسطورة.. وتلك الخطوط الوهمية التي لايراها غيري ربما هي خطوط الاستواء.. وربما حكايات لاتروى لمن لايفهمها.. وربما هي الحكاية وأصلها وإن لم تلامس الأرض.. ولاتتغلف بصناعة الآخرين.. ولكنها ثابتة لاتقتلعها العاصفة.. رغم أنني في لحظة أستكين بحياتي كاملة للريح.. يقرأني وألمح النور في تفاصيله..! ليس مهماً أن تغيب عن كل شيء وتكتفي بذاتك وكأنها طبيعة ذات أسرار مغلقة.. وذات وجوه متقلبة.. ولكن الأكثر أهمية أن تحضر مع نفسك في كل الزوايا من المساء الممتد إلى تلك الظلال التي تبقى غارقاً فيها وكأنها قصور الكفاية.. ومتعة الحياة.. وامتداد الفصول التي هي أنت فقط..!!
مشاركة :