اقترب عمره من الثمانين عاماً، وبدا الوهن والضعف عليه، ورغم ذلك كان ملفتاً أنه لم يتأخر يوماً عن زيارة زوجته في دار المسنين، بل كان يحضر باكراً ليتناول الإفطار معها. وعندما سأله أحد المصورين في الدار وهو يلتقط لهما صورة عن سبب دخول زوجته إلى دار المسنين؟ قال: إنها كانت منذ فترة لأنها مصابة بمرض «الزهايمر» (غياب الذاكرة) أي أنها لا تعرف أحداً. فسأله المصور هل ستقلق زوجتك لو تأخرت عن الموعد ذات يوم، أو لم تحضر؟ فأجاب الرجل: إنها لم تعد تعرف من أنا، إنها لا تستطيع التعرف عليّ منذ خمس سنوات مضت!! فقال المصور مندهشاً: ولازلت تذهب لتناول الافطار معها كل صباح على الرغم من أنها لا تعرف من أنت؟ ابتسم الرجل وهو يضغط على يد المصور وقال: هي لا تعرف من أنا «ولكني أعرف من هي»! هل هو الحب؟ أم أنها عشرة السنين؟ أم أنه ذلك الارتباط الإنساني الذي لم يعد أحد يصغي إليه، أو يلتفت إلى قيمته الحقيقية؟ في العلاقات الإنسانية ثمة من يبحث عمن يسعده، وثمة من يبحث عمن يرافقه ويبقى معه حين تغيب الأحلام، وتلك المسؤوليات التي سبقتهما على الطريق، وتحمّلا الركض خلفها. وثمة من يشعر أن العلاقة الإنسانية للمستقبل أكثر منها للحاضر، فهي من ستتحمل مسؤولية جميع الفصول، وكأنها منظمة متكاملة تقوم بكل شيء. لفتتني قصة ذلك الرجل المسن الذي يصر على الحضور كل يوم إلى زوجته التي لم تعد تعرفه، وأعتقد أنه لو كان قادراً بدنياً على رعايتها لابقاها بجانبه، ولم يتركها، لكن ضعفه لم يمنعه من الذهاب إليها يومياً والإمساك بيدها لمساعدتها على تناول الإفطار وكأنه يحصّن هذه اللحظة مما فعله الزمن، والتقطه منه هو غادر به كذكريات جميلة زرعتها تلك المرأة ولم تعد تتذكر منها شيئاً، لكن هو ظل مسكوناً بها، وبذلك العهد الماضي الذي لم تلغٍ السنون أهميته، وجمال تفاصيله. هل هو الوفاء؟ أم أنه الارتباط فقط، والحاجة في مثل هذا العمر لتلك المرأة أو الروح التي رافقته أكثر من ستين عاماً؟ لماذا لم يتركها إلى النسيان؟ وهو المتعب والمنهك؟ لماذا لم يرتكن إلى عزلته الأخيرة كحالة تأمل، وتذكر، ورضا، وتفاؤل لتلك الفرص التي من الممكن أن تأتي؟ ربما لو كان المصور حاول أن يعرف منه ما هو أكثر فلن يتحدث إليه، فهو يحضر إليها ليحدّثها ربما بما لديه من أخبار العائلة التي تفرقت، وأخباره هو، وحكاياتهما معاً، وربما هي لم تفهم، ولا حيلة لديها لتخترع مفردات الاجابة، والحوار، ولكنهما يحضران لأنه يلمس معها بقايا روحه التي يقتلعها في الصباح بعد أن يغادرها، ويعود مرة أخرى في اليوم الثاني لتعود إليه روحه كحقيقة ثابتة «يلمسها في صورة زوجته التي لا تعرفه، ولكنها معه، بكل تلك الأيام المثقلة بالذكريات، والحنين إليها، يلمس يدها وهي لا تدرك، لكن هو يبدو كمن يجمع أوراق الخريف يحولها إلى نبتة تتكسر فروعها على أسطح ظلال ذلك الزمن الغائب. هو الارتباط الإنساني، وتلك الحفلة الممتدة من تفاصيل الزمن المشترك تبدو وكأن الأرض أمامه المخضّرة والمزهرة وترصدها العين كجمال مهما بُعد يظل قريباً، ويستحق أن تتدثر به. في الحب بمفاهيمه المختلفة، تستطيع إعادة اختراع حياة جديدة من خلاله، والتمازج معها يومياً، وكأنك تصنع الحياة. في الحب الحقيقي الذي لا يغزوه الارتباك، ولا الخيانة، يبدو السر ليس في بقائه، ولكن في استلهام تلك الأيام الماضية، والتنقل بها وكأنها نبض الجسد ونور الحياة. يتحول الحب الحقيقي إلى منفى إنساني واختياري مشبّع بالحنين، وفتنّة استقراء الأرواح التي سوف تشعر من خلالها أن هناك ما يسري مجاناً في عروقك بترف شديد لا يمكنك رصده بالعين المجردة، ولكن يمكنك أن تحيا به حراً، وإنساناً حقيقياً.
مشاركة :