لن تبرح ذاكرة الثقافة العربية والأردنية أعمال ومواقف المفكر والعلاّمة الكبير ناصرالدين الأسد الذي أسدل موته الستار على حياة جيل العمالقة الإبداعي في الأردن كما يؤكد متخصصون تاركاً إرثاً مهماً وواسعاً في مجالات الأدب المختلفة، خصوصاً البحث والتحقيق في اللغة العربية ونشرها حتى أُطلق عليه لقب حارس الفصحى الأصيل مع اتباعه المنهج الدقيق الوازن بين العلم الصارم ومواكبة الحداثة. شخصيات ثقافية وأكاديمية وإعلامية سردت لالخليج الثقافي مآثر وذكريات عديدة تُظهر علو الشأن العلمي وتواضع التعامل الشخصي للفقيد ناصرالدين الأسد الذي جمع بين حصوله على الدكتوراه في اللغة العربية من القاهرة وتأسيسه الجامعة الأردنية وتعيينه أول وزير للتعليم العالي في المملكة فضلاً عن عضويته السابقة في مجلس الأعيان من جهة وبين سلاسة جذبه الشباب تحديداً للتمسك باللغة الأم دون تنفير أو تنظير. من شريط حياته عبر 93 عاماً يتوقف أستاذ اللغة العربية المؤرخ نبيل جرجس عند حرص ناصرالدين الأسد حتى إلى نحو شهرين قبل وفاته عقب دخوله المستشفى على التواجد بنفسه في المحافل الثقافية المُهتمة تحديداً بتعزيز حضور اللغة العربية وتدعيم ممارستها. يقول جرجس الذي رافق الأسد في مناسبات عدة وحصد ثراء معرفياً من مكتبته المنزلية الضخمة المفتوحة للمثقفين: أعرف جيداً سيرة هذا النابغة وأفضاله الكبيرة على طلبة جامعات في بداياتهم ليس من باب تدريسهم في قاعات المحاضرات فحسب وإنما إرشادهم وتقديم النصح المُحبب مُحتفظاً دائماً بقامة فكرية شامخة ومهنية عالية من ناحية وأسلوب يميل إلى الخوف الصادق على جيلٍ بأكمله فضلاً عن ذهابه إلى كل مشروع يدعم اللغة العربية. يضيف جرجس الذي يُعِد حالياً دراسة عن الفقيد: كانت صلته مع الكتاب وثيقة منذ الطفولة لاسيما أن والده محمد أحمد جميل حرص على إهدائه الإصدارات التي يحضرها من جولاته وأسفاره بحكم وظيفته وقد ترعرع ناصرالدين في ظل معلمين مؤثرين بينهم عبد المنعم الرفاعي وكاظم الخالدي وسعيد الدرة ولذلك تأسس على حسٍ شعري وكتب قصيدته الأولى فكرة حائمة عندما كان في السابعة عشرة من عمره عام 1939 وتفاعل آنذاك مع الأحداث السياسية نثراً وعبر مقالات عدة حتى فُجع بوفاة أبيه بعدما كان فقد والدته في صغره واضطرته الظروف للعمل كاتباً في المحكمة الشرعية. يتابع جرجس: حصل ناصرالدين الأسد على المرتبة الأولى في الثانوية المتوسطة في مدينة السلط غربي عمّان ونال منحه دراسية في جامعة القدس وحافظ على تفوقه طوال سنوات التعليم وتوثّقت علاقته مع التراث والأدب العربي من خلال تعلقه بكتب البحث ومناهجه وفور عودته للأردن عام 1943 أسس منتدى أدبياً ضم عدداً من الشعراء والكتّاب تحوّل إلى ما يشبه ندوة أدبية طليعية حتى غادر إلى مصر لاستكمال دراسته الأكاديمية في جامعة القاهرة إلى مرحلة الدكتوراه متفاعلاً مع الحياة الفكرية هناك انطلاقاً من رسالته حول مصادر الشعر الجاهلي التي تصادم مضمونها مع رؤى طه حسين قبل أن تجمعهما صداقة متينة ويحصل الأول بعد سنوات على جائزة تحمل اسم الثاني. ويلفت جرجس إلى عمل الراحل ناصرالدين الأسد حتى أواخر خمسينات القرن الماضي في الإدارة الثقافية ضمن الجامعة العربية وتوليه عمادة أول كلية للآداب في جامعة بنغازي الليبية ووضعه اللبنة الأولى في تأسيس الجامعة الأردنية وتصدره رئاستها وعضويته في مجامع ومجالس علمية في مصر والمغرب والعراق والهند وغيرها وإطلاقه ورعايته مشروع قانون اللغة العربية في الأردن. ويسترسل: كان ناصرالدين واعياً مُدركاً يقظاً ونبيهاً حتى مع تجاوزه التسعين من عمره وظل يستقبل عدداً من المثقفين وحتى المسؤولين المتطلعين إلى استشارته في شؤون فكرية وطريقة التعامل المثالية مع الطلبة والشباب وذات مرة زاره وزير الثقافة الأسبق بركات عوجان منتصف شهر إبريل/ نيسان عام 2013 للاطمئنان عليه وفتح معه باب المناقشة حول أساليب مواجهة ظاهرة العنف الجامعي بعد تفاقمها حينها وتجولا معاً في المكتبة المنزلية وطرح ناصرالدين الأسد مجموعة أفكار مع اقتراحه مراجعة بعض الدراسات في هذا الخصوص وبعدها بنحو شهر توجّه بنفسه إلى مقر وزارة الثقافة حاملاً مسودة توصيات كتبها عقب تمحيص وتدقيق. ويشير وزير الثقافة الأسبق ورئيس الجامعة الأردنية السابق عادل الطويسي إلى ما نعتها أساسات راسخة وضعها ناصرالدين أكاديمياً وفكرياً قائلاً: لقد بادر الراحل ناصرالدين إلى وضع المسودة الأولى لقانون حماية اللغة العربية قبل نحو 9 سنوات ورغم تأخر صدوره تشريعياً حتى قبل أسابيع من وفاته لكنه فتح الباب لاستفادة كبيرة من جيلٍ لآخر وقد نجح عبر برامجه الإعلامية في تحقيق علاقة فريدة يين نخبوية الثقافة والأدب وبين عموم الجمهور وواكب مستجدات التواصل مع الشباب وسجّل حضوراً في تسخير وسائط حديثة لخدمة الإبداع وكان لا يصدُ مبتدئاً في الكتابة والبحث والشعر عندما يلمس رغبة صادقة في الاجتهاد. ويستذكر الطويسي عبر مناسبات عدة حرص ناصرالدين الأسد على تقريب اللغة العربية من الجميع وطرح جمالياتها بعيداً عن التصعيب وتكراره أكثر من مرة عمله في جلسات أدبية اتباع حيوية التعامل مع اللغة الأم وجعلها قابلة للتحدّث بسلاسة لدى مختلف الشرائح عبر اختيار مفردات سهلة الاستيعاب والتداول واتباع منهح التطوير بما يتماشى مع احتياجات العامة. ويؤكد الطويسي عدم تعمد ناصرالدين الأسد وضع هالة رمزية له رغم ثراء مشواره الأدبي ورصيده الزاخر بالجوائز والإصدارات التي خدمت الثقافة واللغة العربية مشيراً إلى تطبيقه ضمن جيل الرواد الحقيقي مفهوم الإبداع المرتكز على حرصٍ شديد على النص والتحقق من المصادر والمعلومات وعدم ترفعه عن سؤال أهل الاختصاص واصفاً إياه بالموسوعة الفكرية والمرجعية اللغوية الرائدة فيما دعا إلى استمرار طباعة ونشر كتبه نحو تعميم الفائدة. ويقول الروائي هاشم غرايبة: إن ناصرالدين الأسد شيخ اللغة العربية وقد تعلمنا منه وقد جمع بين حلاوة الحديث وأهمية المعنى مستخدماً شفافية وطلاقة العالِم البليغ والمفكر الحكيم وأتذكر أن افتتاح مقر رابطة الكتاب الأردنيين عام 1974 تأجل حتى حضوره من القاهرة تقديراً لعلمه ومكانته وهو يعتبر من صفوة المثقفين العرب وخدم الكلمة وهناك وزراء وأساتذة جامعات تخرجوا من تحت يديه وأشرف على رسائلهم وناقش أطروحاتهم الأكاديمية. ويسترجع الناقد زياد أبو لبن حضور الراحل ناصرالدين الأسد في الجامعة الأردنية قائلاً: كان يلقي المحاضرات بوجه مشرق وأسلوب محبب وكلما وجدنا صعوبة في الفهم أطلق ابتسامة ممزوجة بطرفة نحو كسر الجمود وقد جالسته مرات عدة عقب التخرج وأجريت معه حواراً مطوّلاً نشرته ضمن كتابي حوارات مع أدباء من الأردن وفلسطين وتيقّنت في كل مرة غزارة علمه ومعرفته الدقيقة بكل شاردة وواردة في اللغة العربية وتبصره وتبحره في الأدب الجاهلي وانفتاحه على قضايا اللغة المعاصرة وعدم ركونه إلى القديم أو اندفاعه للجديد إلاّ انتصاراً للنافع المفيد نحو الارتقاء بالذائقة. ويؤكد الكاتب والباحث حسني عايش نجاح ناصرالدين الأسد في إيصال خطابه إلى مختلف الأجيال وتمكنه من الوصول إلى غير الناطقين باللغة العربية أيضاً وبروز إذكاء روح التراث في كتبه مستعيداً ما ذكره الراحل حول الحداثة من وجوب عدم الانعزال عنها وإنما المسارعة إلى دراسة مكوناتها وفهمها والانتباه لاتجاهاتها مع إدراك خصائص ثقافتنا واستخراج كوامنها الأصيلة وكنوزها الحقيقية. ويرصد جمال مقابلة أستاذ اللغة العربية في الجامعة الهاشمية تناول المؤرخ والسياسي وعالم الاجتماع واللغوي والمفكر والإعلامي والباحث وغيرهم من مختلف أرجاء الوطن العربي سيرة وأعمال ناصرالدين الأسد وذلك لأنهم وجدوا فيه تنوعاً في أبواب العلم وثراء المعرفة وفق لغة قل نظيرها. لأنه اتبع التحقيق والتفنيد والتقنين لم يُصدر ناصرالدين الأسد مؤلفات وكتبا كثيرة قياساً بأبناء جيله ومن أهم ما في رصيده الفكري والأدبي والبحثي مجموعة عناوين أثرت المكتبة العربية بينها مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية الذي طبع 8 مرات ونحن والآخر: صراع وحوار عام 1998 وتاريخ نجد عام 1985 والحياة الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن حتى عام 1950 ونحن والعصر الذي تناول مفاهيم ومصطلحات إسلامية فضلاً عن دراسات متخصصة حول دواوين شعرية وفي سجله عشرات الأوسمة والجوائز بينها وسام الاستقلال الأردني من الدرجة الأولى عام 1966 والوسام الذهبي من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1977 ووسام القدس للثقافة والفنون من فلسطين عام 1991 ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى في مصر عام 2001 وغيرها.
مشاركة :