قال الله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(9-10 الشمس) فسرها إبن كثير أن جواب القسم قد أفلح من زكاها أنه قد فاز ونجا من طهر نفسه بالإيمان والطاعة فصار زاكياً طاهراً بنعيم الجنة، وقد خاب من دساها أي خسر من دس نفسه أي أهملها في الكفر والمعاصي ويقال معناها قد أفلح من زكى الله نفسه أي أصلحها وطهرها من الذنوب ووفقها للتقوى وقد خاب وخسر من دساها دس الله نفسه أي خذلها حتى عملت بالفجور وركبت المعاصي، وقد قال إبن عباس أهلكها وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ( اللهم إت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها) لذلك أفضل ما يشغل به الإنسان نفسه هو تزكية نفسه الأمارة بالسوء، قال إبن قدامة فكيف يعرف الإنسان عيوب نفسه ليطهرها، هناك عدة طرق: 1- أن يصاحب ويجلس مع رجل صالح صريح يعرف بعيوب نفسه كمن يذهب لمستشار أو طبيب يعرف مرضه فيصف له العلاج المناسب. 2- يختار صديقاً ذا دين وخلق ويطلب منه أن يراقبه ويحاول أن ينبهه إلى عيوبه حتى يصلحها وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (رحم الله إمرءاً أهدى إلينا عيوبنا) أبو بكر الصديق. وقد كان السلف يحبون من يرشدهم إلى عيوبهم ليتمكنوا من إصلاحها مثل ما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما قال في خطبته بعد توليه الخلافة (أما بعد : أيها الناس قد وليتم عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعيونوني وإن أسات فقوموني ، أما في هذا الزمان فأبغض الناس إلينا من ينبهنا إلى عيوبنا نسأل الله السلامة. 3- يخالط الناس ولكن يجتنب الزميم منهم. 4- يحاول أن يستشف ويعرف عيوبه من السنة أعداؤه فإن عين السخط تبدى المساوئ، فإنتفاع الإنسان بعدو مشاجر يذكر عيوبه أكثر من إستفادته بصديق متملق يخفي عنه عيوبه فهذه بعض الطرق تعالج ونصلح فيها أنفسنا فهل من جاد لإصلاح نفسه؟؟. فإذا صلحت الأعمال صلحت الجوارح وصلح معها القلب. 1- صلاح القلب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) فبعلاج القلب يصلح الجسد كله ولأن الجوارح ترجمان القلب فهي تعبر عما يحتويه القلب، لذا قالوا إنما المرء بأ صغرية قلبه ولسانه) فالله سبحانه وتعالى ربط أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة بأعماله وربط صلاحه بصلاح الكون فإذا صلحت أعماله صلح الكون، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(96 الأعراف) وقال تعالى أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ( الأعراف97) وقال تعالى أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ.(98 الأعراف) 2- صلاح السوكيات. قال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(40-41 النازعات) فيجند الإنسان نفسه وجوارحه وقلبه ليؤدي دوره في هذا الكون الفسيح لا ليعيش مثل الأنعام يأكل ويشرب وينام ويموت كالدواب، وقد حط وحفر القرىن من شأن قوم عاشوا بلا هدف ولا رسالة في الحياة قال تعالى أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(179 الأعراف)، يعيشون دون ترك أي بصمة لهم في الكون فالإنسان لابد أن يؤدي رسالة في جماعته يصلح بها الكون فإذا صلح الفرد الأنسان صلح المجتمع وبالتالي صلح الكون قال تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون(117 هود)، ولم يقل صالحون فالمصلح غير الصالح فلا يفيد كثرة الصالحين بدون إصلاح فالأمم التي سقطت أخلاقها وشاع فيها الشر والفساد وأصبح الطغيان شريعتها أمم متهالكة البنيان لا دوام لها ولا إستمرارية يبتليها الله بالهلاك والدمار الشامل تصديقاً لقوله تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16 الإسراء)، إذا بصلاح وإصلاح الإنسان يصلح الكون كله، قال تعالى وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77 الحج)، فالفرد العالم يصلح المجتمع وله من الله كرامات وتستغفر له الملائكة والحيوانات فأكبر الحيوانات الحوت وأصغرها النملة تستغفر للعالم وما بينهما، كم طيراً في الهواء وكم دابة على الأرض وكم حية، كل أولئك يستغفرون للعالم وإنما يراد هنا بالعلم النافع للمسلمين الذي يعمل بعلمه وليس لطلب الشهرة، فشبه العالم بالقمر وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب العالم هنا الإنسان المصلح بعمله، هناك إذا علاقة بين الإنسان والكون وقال العلماء لأن القمر يمتد نوره إلى الآفاق ويصل إلى بلدان العالم ويضيء في الظلمة وكذلك العالم يبلغ علمه إلى آفاق المعمورة ويصل للمنازل والمساجد، وهذا هو الذي يعلم الناس الخير ويدلهم عليه فتحققن فيه الإنسانية المطلوبة وضرب الله لنا في القرآن أمثلة كثيرة منها قصة مؤمن آل يس في سورة (يس) حيث قال تعالى وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُون(13-15 يس)، فأخبرنا الله في هذه الآيات أنه أرسل إلى أهل قرية إثنين من الرسل يدعونهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع فبادروهما أهل القرية بالتكذيب فعززها الله وقواهما برسول ثالث وعندما قال المكذبون من أهل القرية من التكذيب قال لهم رسلهم أنا رسل الله إليكم ولو كنا كذبنا عليه لأنتقم منا أشد إنتقام ولكنه سيعزنا وينصرناا عليكم وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار، ولكن أهل القرية أستمرو وطغوا وراحو يتطيرون بهؤلاء المرسلين ويقولون كما قال قتادة إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم وإنكم إذا لم تنتهوا فسوف نرجمكم بالحجارة وسيصيبكم منا عقوبة شديدة فقالت لهم رسلهم إن طائركم معكم مردود عليكم وأنتم عاديتمونا وهددتمونا إلا من أجل إنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له بل أنتم مسرفون لتطيركم وكفركم وفسادكم، وقد قيض الله لهولاء الرسل من يدافع عنهم فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قمومه قيل أن أسمه ( حبيب النجار) وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذم لكنه إنسان وكان كثير الصدقة يتصرف بنصف كسبه مستقيم الفطرة وقيل كان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره فلما أبصر الرسل إلى عبادة الله فقال هل من آية ؟ قالوا نعم ربنا على ما يشاء قدير وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر , فآمن , ودعوا ربهم فكشف الله ما به كأن لم يكن به بأس , فحينئذ أقبل على التكسب فإذا أمسى تصدق بكسبه فأطعم عياله نصفا وتصدق بنصف، فلما همّ قومه بقتل الرسل جاءهم فوعظهم أحسن ما تكون الموعظة وذكرهم بحق الله من العبادة والتعظيم فقتلوه فما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها , وفيه قول الله له قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ , فلما شاهدها قال يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ، قال الإمام القرطبي والظاهر من الآية أنه لما قتل قيل له ادخل الجنة , وقال قتادة أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق دليل قوله تعالى وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون (169 آل عمران) فإنسانيته وفطرته دعته للتصديق بالرسل ودعا إلى الله ودافع عن دين الله ورسله فلما قتلوه جزاه الله خير الجزاء لأنه أراد نشر الخير وأهتم لأمرهم هنا يكمن الإصلاح بعد الصلاح والإكرام وقال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين لإكرمه الله ورفع شأنه هنا تكمن إنسانيته في حرصه الشديد على الحياة وما بعد موته فأستمر باصلاح الكون ولم نيته بسبب الدعوة والإهتمام بنشر الخير تأسياً بالرسل فلذلك تمر على الإنسان لحظة للتعرف على نفسه والتعرف على ربه وهذه من أعز اللحظات فالله غني ونحن محتاجين إليه فالعارف بالله له حبل ممتد متصل مثل الحبل السري بين الأم والطفل فإذا أنقطع الحبل السري لا يضر الأم ولكن الطفل هو يتأثر ويموت، فلا بد أن نكون متصلين بالله لتظهر قيمة هذا الإنسان ويعرف ماذا صنع ما بين حياته ومماته في هذه الرحلة لأن ما بين حياته ومماته رحلة قد تقصر أو تطول، فالموت يسكن داخلنا والموت أقرب إلى أحدانا من شراك نعلهـ وخطر عظيم أن تنهى حياته ورحلته وهو لم يصلح نفسه ولم يترك بصمة في الكون بصلاحه، فالله خلقنا وأعطانا من الوظائف الحيوية ما لا يعد ولا يحصى وطلب منا التفرغ لأعلى المعارف وأشرف الأعمال عمل الخير ودرء الشر. وأخيراً بصلاح الإنسان يصلح الكون وبفساده يفسد الكون، وكأن الإنسان بإيمانه ودعوته إلى الله سبب ببقاء ونجاة هذا الكون من الدمار وإنارته وزوال الظلام.
مشاركة :