بعد انشغالها منذ أشهر بشكل النافذة التي فتحها النظام للحوار، يبدو أن المعارضة الموريتانية اكتشفت أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز فتح النافذة فعلاً لكنه أبقى على سياجها، الذي لن يسمح بدخول غير أشياء محدودة جدا، وقد لا تتعدى تهوية سياسية وبقدر ما يتحمله أنف النظام الحساس إزاء غبار وأتربة المطالب المناوئة. المعارضة الموريتانية المنهكة تعبوياً ومالياً، والمشرذمة بين ثلاث هيئات، وأكثر من أربعين زعيماً، تأكدت الأسبوع المنصرم، وفي بيان منتدى المعارضة، أن الحوار الذي عرضه النظام هو مجرد ملهاة جديدة تعود عليها النظام الحالي. وقالت المعارضة إن تعامل الرئيس ولد عبد العزيز مع هذا الحوار أكد عدم جديته في الموضوع، مذكرة بثلاث محاولات مشابهة في السابق. ونوهت المعارضة إلى أنها استجابت بنية صادقة لدعوة الحوار، رغم الشكوك التي تحوم حول النوايا الحقيقية للرئيس ولد عبد العزيز نفسه بهذا الخصوص. المعارضة الموريتانية هددت بأن صبرها قد نفد، ولوحت بالتصعيد والنزول للشارع، وأكدت عزمها أكثر من أي وقت مضى، على العمل بجد، وبكافة الوسائل المتاحة من أجل تحقيق التغيير المطلوب الذي يتطلع إليه الشعب الموريتاني. جاء ذلك بينما أكدت التسريبات أن الحكومة بصدد رفض النقاط الرئيسية في وثيقة عرض الحوار التي تسلمتها الحكومة، وتتعلق أهم المطالب الرئيسية بحكومة توافقية تشرف على تطبيق نتائج أي اتفاق ينتج عن الحوار المرتقب. ووفق التسريبات، فإن مداولات صقور نظام ولد عبد العزيز توصلت إلى أن أقصى ما يمكن أن تصل إليه الحكومة من تنازلات هو القبول بانتخابات برلمانية وبلدية تسمح بعودة المعارضة للمؤسسات الانتخابية. يناقضُ ذلك بشكل كلي طموح القادة الرئيسيين في المعارضة (أحمد ولد داداه، علي ولد محمد فال، ومسعود ولد بلخير)، الطامحين إلى خلافة ولد عبد العزيز في الحكم، وذلك عبر حوار يؤمن إنهاء مأموريته بسلام، لكنه يمكن المعارضة من استلام الحكم في الرئاسيات القادمة. غير أن القوى الوسطية في المعارضة، غير منشغلة بالمعركة المبكرة حول الكرسي الرئاسي، وترى أن أهدافها يجب أن تتركز أكثر حول مشاركة معقولة ومنصفة في الدولة ومؤسساتها الانتخابية والإدارية، وذلك سبيل المشاركة في وضع تصور للمشاكل العميقة التي تعيشها البلاد في ملفات أكثر استراتيجية متعلقة بالمشكل العرقي والشرائحي والوضع المعيشي، والدور الموريتاني في الصراع الإقليمي المتصاعد بشكل متسارع جراء ملفات الإرهاب والاضطرابات في الساحل. من هذه الزاوية ينتظرُ ولد عبد العزيز إما إلى جر المعارضة لمشاركة انتخابية لتجميل مساره الديمقراطي، أو إحداث انقسام في صفوف المعارضة، بعد الجدل بل والعتاب بين القادة المعارضين إثر النتائج الكارثية التي خلفها قرار المعارضة مقاطعة الانتخابات التشريعية والرئاسية الماضية. هكذا بعد أن انشغلت المعارضة الموريتانية خلال الأشهر الماضية في تصفيف المطالب والشروط المحضرة للحوار الشامل، بناء على العرض الأسخى من نوعه المتعلق بعرض النظام لانتخابات رئاسية مبكرة ونيابية وبرلمانية سابقة لأوانها وبناء الثقة بين كل الأطراف السياسية، إذ بأحلامها تتحطمُ أمام الواقع والممكن، أمام خيار الدخول في اتفاقات مرحلية كما جرى في السابق أو العزلة. ليس ذلك فحسب، فالمعارضة انتبهت متأخرة إلى أن موريتانيا تتجه إلى منعطف سياسي حاسم، يتعلق هذه المرة، بالتحضير لحكم مستديم لصالح الرئيس محمد ولد عبد العزيز. هذا المنعطف من الطبيعي أن تواجهه عشرات الصعوبات نظراً إلى التحولات السياسية المتصاعدة، والتجاذب الاجتماعي العنيف الذي تشهده البلاد، إلا أن الحراك المحموم لولد عبد العزيز وحشده الشعبي الهائل في مختلف ولايات البلاد، لم يترك مجالاً للشك في سعي الرجل للتحضير المبكر لمأمورية ثالثة، كانت المعارضة مطمئنة إلى أنها مستحيلة دستورياً، إلا أن الحشد الجماهيري الذي نجح الرئيس في تأمينه وتحركه السريع بين الولايات وخرجاته الإعلامية، ولقاءاته بنخبته العسكرية، تشير إلى أنه ماضٍ في هذا الخيار. الرئيس ولد عبد العزيز شغل طوال أسابيع الرأي الموريتاني بأطول الجولات الرئاسية في تاريخ البلاد، ويستعد لجولات أطول في باقي الولايات. خلال الجولات الماضية، غير ولد عبد العزيز الأسلوب النمطي للزيارات الرئاسية، فلم يترأس أي مهرجانات ولم يلق أي خطاب، واكتفى بالتلويح للحشود التي تستقبله، وبزيارات مكثفة لاستطلاع واقع المدارس والمستشفيات والطرق وتفقد المشاريع الإنمائية. ولد عبد العزيز اكتفى في عاصمة كل ولاية بعقد اجتماع سريع بما يعرف بالوجهاء والأطر (كبار الناخبين)، يستعرض فيه إنجازاته، ويجيب عن بعض الأسئلة الهامشية ويتجاهل تلك الأسئلة المحرجة.بحسب الكاتب الصحفي موسى ولد حامد. المحللون والمراقبون السياسيون لم يجدوا إجابة شافية تبرر زيارات ولد عبد العزيز في هذا الظرف للولايات الداخلية، إذ لم تتضمن لقاءات شخصية، ولا إطلاق مشاريع نوعية، كما لم تتضمن الرد على الأسئلة التي تشغل بال الموريتانيين فيما يتعلق بالوضع المعيشي والبطالة والمطالب النقابية المتصاعدة. المعارضة لم تر في هذه الزيارات الكرنفالية غير المبررة سوى أنها كرست الممارسة القبلية والجهوية البغيضة بأبشع تجلياتها. هذه الزيارات الغامضة، التي لا تشهد خطابات ولا مهرجانات ولا لقاءات فردية، وتأتي في عزّ موسم الحر الشديد والجفاف، لا تتعدى قيام الجنرال، وفي خطوة ذكية، باختبار قدرته على الحشد الجماهيري، واختبار القوة الجماهيرية لأنصاره ومراقبة ذلك عن قرب وميدانياً بعيداً عن التقارير المكتبية، التي لا يمكن الاتكال عليها في ظل توجهه نحو البقاء في السلطة عبر ولاية رئاسية ثالثة، تتطلب عملاً جماهيرياً استثنائياً من أجل تغيير الدستور أو طبيعة نظام الحكم. وخلال ذلك حقق ولد عبد العزيز أهدافاً تلقائية أخرى، منها دفعه الموريتانيين إلى تناسي الشائعات عن حالته الصحية، بعد أن أمضى أسابيع يتحرك ليل نهار في أقسى الظروف المناخية. ولد عبد العزيز الذي نفى باستحياء سعيه لمأمورية ثالثة، واعتبر أن هذا ليس الوقت المناسب لهذا السؤال، يدرك أن الوعود لا تلزم سوى من يقتنعون بها، وفق تعبير أحد المعلقين الموريتانيين، بينما يدرك خصومه أن كل هذه التعبئة الشعبية ليست من أجل وداع كرسي الحكم. وكان قادة بارزون في المعارضة قد أكدوا أن ولد عبد العزيز يعد لانقلاب شعبي على الدستور. تعزز ذلك ملفات مستجدة بالغة الأهمية، فإعلان شركة كسموس أنيرجي الأمريكية عن اكتشافات فاقت التوقعات لما يتوقع أن يكون أكبر حقل للغاز في غرب إفريقيا، واكتشفته الشركة في السواحل الموريتانية، تم بطريقة لا تخلو من أسلوب هوليودي، إذ سافر رئيس الشركة عبر طائرة خاصة مطارداً الرئيس الموريتاني في ولاية داخلية لإبلاغه النبأ السعيد. وقبل ذلك وصل التعاون العسكري الموريتاني الأمريكي مرحلة استراتيجية بشهادة الطرفين، وبشهادة التحرك العسكري الأمريكي في موريتانيا بشكل لافت. وإضافة إلى ذلك، ضمنت موريتانيا الحصول على تمويلات خارجية سخية لمشاريع تنموية مهمة، متعلقة بقطاعات الزراعة، والصحة، والتعليم، والبنية التحتية. في هذه المرحلة لا يتعجل الرئيس الموريتاني إجراء أي اتفاق مع المعارضة، إذ تقبل هذه الأخيرة على عطلة سياسية طويلة تبدأ بشهر رمضان وموسم العطل لتنتهي بافتتاح العام الدراسي القادم. وكان ولد عبد العزيز قد رد على استغراب عرضه السخي حول الحوار، بأنه لا يزال في بداية مأموريته الرئاسية، وأنه إنما عرض الحوار من أجل تنمية المسار الديمقراطي، ومن أجل فكّ العزلة عن المعارضة. لا يمكن للمعارضة الموريتانية بتنظيماتها الحالية، وتضارب مصالحها ورؤاها، وتنافس زعمائها، أن تشكل حاجزاً بين ولد عبد العزيز وطموحه لتأسيس حكم مستديم عبر تغيير الدستور أو طبيعة الحكم من جمهوري إلى برلماني. ذلك أن الرجل (الجنرال)، بعد امتلاكه لقرار وولاء المؤسسة العسكرية، وإعادة بنائها من جديد، عرف الطريق إلى إدارة الموريتانيين عبر تناقضاتهم. وهكذا استخدم الورقتين العرقية والشرائحية، بشكل يخدم بقاءه في الحكم، كما رسم عبر تحويل البلاد إلى محطة لوجستية للقوات الفرنسية والأمريكية، دوره الإقليمي في منطقة الساحل، وذلك بعد نجاحه في الملف الأمني ليس داخل البلاد وحسب، بل وفي بناء نظام استخباراتي في شبه المنطقة، يباهي ولد عبد العزيز علناً أنه أصبح يخدم المجتمع الدولي. وكخلاصة، فإن أقل ما يقال إن الوضع الميداني الحالي يشجع برمته ولد عبد العزيز على اتخاذ خطوة التأسيس لحكم مستديم، وهي خطوة قد تتأخر تكتيكياً، أو لأن الوقت لا يزال يسمح.
مشاركة :