تواتر الحديث عن أزمة الديون اليونانية على الساحتين الاقتصادية والسياسية كحدث هام أوروبي وعالمي، لانسداد درب التوصل إلى اتفاق بين الدائنين الدوليين واليونان بشأن حزمة المساعدات من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. ان هذا الدرب يدعو للتأمل والتوقف فكل جزء منه يحمل معنى، حيث ان أزمة اليونان الظاهرة للعيان ليست وليدة الساعة، بل شهدت اليونان منذ تسعينيات القرن الماضي تدمير البنية التحتية الإنتاجية ونقل المصانع اليونانية إلى دول البلقان وتشجيع الحكومة البنوك اليونانية آنذاك على العمل في تلك الدول والاستعاضة عن السلع المنتجة محليا بالسلع المستوردة، ناهيك عن ضخامة تكاليف إقامة الألعاب الأولمبية في أثينا عام 2004. لقد حشرت اليونان نفسها في مصيدة المديونية التي تعاظمت مع الأزمة المالية التي عصفت بالولايات المتحدة الأمريكية في 2008 والناتجة من العجز في الميزان التجاري والعجز في الموازنة العامة وارتفاع الديون الحكومية. لقد شكلت حزمة الإنقاذ للاقتصاد اليوناني متنفسا وقتيا بعد اتفاق الدول الأوروبية وصندوق النقد الدولي واعطت فرصة لليونان في التقليل من الوقوع في الإفلاس عبر باقة شديدة من التقشف، ولكن بدا واضحا منذ البداية ان صعوبات كبيرة ستواجهها اليونان في إعادة تسديد الأموال، وواصل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بقبول استمرارية التمويل لإنقاذ الدائنين من القطاع الخاص. ولم تستطع اليونان تغيير الموقف المتأزم، بل اشارت البيانات الاقتصادية عن الوضع الصعب الذي يعيشه الاقتصاد اليوناني. فقد قلصت الموازنة العامة بنسبة 12 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي واصبح عجز الموازنة ما يعادل 20 بالمائة منه، كما وصل العجز في ميزان الحساب الجاري إلى 12 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بين الأعوام 2009 2014. إضافة إلى ذلك شهدت الأعوام 2008 2013 انخفاضا في الإنفاق الحقيقي للاقتصاد اليوناني بنسبة 35 بالمائة والناتج المحلي بنسبة 27 بالمائة، في حين صعدت نسبة البطالة إلى 28 بالمائة من القوة العاملة. قادت سياسات التقشف التي فرضت على اليونان كشرط للحصول على حزمة الإنقاذ إلى عرقلة جهود عودة النمو، والقت شروط الخطة الاوروبية على اليونان بثقل شديد أرهقها، ولم يشكل علاجا شافيا، حيث ان التقشف في النفقات العامة كالضمان والاعانات الاجتماعية وتخفيض الرواتب الحكومية وزيادة الضرائب قد جر الى خنق الطلب وبالتالي النمو وتعزيز الانكماش. ولم تستطع هذه السياسات التقشفية في القضاء على عوامل الأزمة الناتجة من المديونية الضخمة وعجز الميزانية. لهذا انعكست هذه الآثار السلبية في زيادة الخسارة في ميزان الوظائف والتراجع في الدخل، مما عجلت هذه التداعيات السلبية في وصول حزب سيريزا اليساري إلى الحكم في 25 يناير 2015 والذي كان شعار حملته الانتخابية هو محاربة سياسات التقشف التي اتبعتها الحكومات السابقة. ان سعى الحكومة اليونانية الجديدة إلى إعادة المفاوضات التي تنخرط فيها مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي منذ فبراير الماضي من أجل الحصول على الشريحة المالية الأخيرة، لم تصل إلى قرار واضح يزيل العقبات كاملة، وإن اليونان تنتظر تلك الشريحة التي تقدر بـ 7.2 مليار يورو من إجمالي خطتين للإنقاذ المالي والبالغتين 240 مليار يورو بفارغ الصبر لإغاثة الموازنة العامة من 2010 إلى 2012. وعلى الرغم من نفاذ السيولة والمفاوضات الصعبة فهذا الانتظار قد بلغ عمره تسعة أشهر، أي قبل وصول حكومة حزب سيريزا إلى السلطة ولأزال قائما دون نهاية. إن ذلك السعي اليوناني لم يكلل بالنجاح، فقد قبلت اليونان بجانب من خطة الاصلاح الاقتصادي الذي يتمثل في اصلاح القطاع الضريبي ووضع سقف لمصاريف الدولة وجمع الضرائب المتبقية السابقة وتخفيض ثقل الإدارة واعداد الموظفين، ولكن ظل الجانب الآخر بعيدا عن الاتفاق والذي يتضمن اصلاحات في المعاشات وتحرير سوق العمل وإعادة توظيف أربعة آلاف موظف حكومي سابقين، حيث تمثل الاصلاحات غير المتفق عليها حتى هذه الساعة جزءا أساسيا من وعود الحملة الانتخابية ورافدا من سياسة مكافحة التقشف. وناهيك عن تلك المشاكل أوضحت بيانات البنك المركزي الأوروبي ان حجم الودائع بالمصارف اليونانية قد وصلت إلى أدنى مستوى خلال عشر سنوات اثر تزايد عدم اليقين واحتمالية خروج اليونان من منطقة اليورو، مما يفتح الباب مشرعا للكثير من الحديث حول الرأيين المتعاكسين؛ فالأول الذي يصب في أن اليونان تعيش فوق مواردها، أما الرأي الثاني فيصب في أن أي اتفاق جديد قد يمثل غطاء مختلفا لشروط التقشف التي عانت منها اليونان وكانت نتائجها الفقر وعرقلة التعافي الاقتصادي وتوليد فرص العمل.
مشاركة :