هَجَرَ الطب فأبدع روائياً ومسرحيًّاً وقاصًّاً وناقدًا - إبراهيم البليهي

  • 6/7/2015
  • 00:00
  • 23
  • 0
  • 0
news-picture

يعرف المهتمون والمتابعون للإبداع الأدبي بأن وليم سومرست موم من أشهر وأقدر أدباء القرن العشرين فلقد اتجه لدراسة الطب اضطرارًا من أجل ضمان فرصة مهنية أما اهتمامه التلقائي القوي المستغرق فقد كان مع الأدب والفكر والإبداع لذلك هَجَرَ مهنة الطب بسرعة واتجه إلى الكتابة المسرحية ثم إلى كتابة القصة القصيرة كما أبدع في الفن الروائي وفي الوقت نفسه كان ناقدًا يكتب المقالات الفاحصة العميقة في مجالات نقد الإبداع والفكر والحياة. يصف جعفر صادق الخليلي وليم سومرست موم بأنه: (الكاتب العالمي الذي أُلِّفَتْ عنه الكتب المطولة والمقالات العديدة وأُلقيتْ عنه المحاضرات في أنحاء العالم الغربي وتُرجم أكثر إنتاجه إلى لغات شتى ومُثِّلَتْ مسرحياته في عدد من أقطار أوروبا وأميركا حتى إنه هو وبرنارد شو ظلا مسيطرين على لندن زمنًا طويلا لاتُمَثَّل مسرحية لغيرهما على مسارحها وحتى إن مجلة (بنج) الشهيرة رسَمَتْ في أحد أعدادها صورةً كاريكاتيرية تُمَثِّل شكسبير وهو يَعضُّ أصبعه حسدًا وهو يتأمل إعلانًا عن أربع مسرحيات لسومرست موم تُمَثَّل في أربعة مسارح في لندن بوقت واحد). قد لايدرك الكثيرون في المجتمعات العربية الأهمية الكبرى للإبداع المسرحي والإبداع الروائي والإبداع في مختلف الفنون فثقافتنا عوَّدتنا أن نزدري الفن وأن ننظر إلى المسرح والفن الروائي وما يماثلهما من فنون العصر العظيمة على أنها مَضْيَعةٌ للوقت وفي أحسن الأحوال على أنها للتسلية ونجهل أنها كانت الأعظم تأثيرًا والأقدر على حلحلة التحجُّر في العالم وإطلاق الطاقات الإنسانية إن هذه الإشارة الساخرة تؤكد المكانة الاستثنائية التي احتلها سومرست موم في مجال الكتابة المسرحية ثم في مجال القصة والإبداع الروائي ولم يكن إسهامه النقدي يَقلُّ عن إبداعه المسرحي أو القصصي أو الروائي وكل هذا بعيدٌ عن تخصُّصه الدراسي أما المبدع الآخر برنارد شو الذي تقاسم مع موم السيطرةَ الإبداعية على لندن فإنه قد اكتفى من التعليم الجماعي بالمرحلة الابتدائية فقط وكلاهما شاهدٌ من شواهد كثيرة تؤكد أن الإبداع لا يكون إلا خارج التأطير والتنميط. قد لايدرك الكثيرون في المجتمعات العربية الأهمية الكبرى للإبداع المسرحي والإبداع الروائي والإبداع في مختلف الفنون فثقافتنا عوَّدتنا أن نزدري الفن وأن ننظر إلى المسرح والفن الروائي وما يماثلهما من فنون العصر العظيمة على أنها مَضْيَعةٌ للوقت وفي أحسن الأحوال على أنها للتسلية ونجهل أنها كانت الأعظم تأثيرًا والأقدر على حلحلة التحجُّر في العالم وإطلاق الطاقات الإنسانية وكما يقول المبدع يحيى حقي: (الرواية تتفرد بقدرتها على أن تنفذ بك إلى تحت جلد هذا الآخر وبالأخص بعد أن أصبحتْ وعاءً لروائع الفكر.. لم تَعُدْ الرواية بقصد التسلية بل معالجة قضايا وجود الإنسان غير ناظرة إليه نظرةً مُفَتَّتَة كما تفعل العلوم بل تتناوله كُلاًّ متكاملاً.. الإنسان في الرواية ليس بطاقةً أو رقمًا أو ملفًّا أو رسمًا بيانيا أو نبتا منتزعًا من جذوره بل كائنٌ ينبض بالحياة.. مندَسٌّ في نسيج معقَّد من علاقات متبادلة تجمع بين النقيضين فهو فَذٌّ ومتشابه.. متفرِّدٌ وملتحم.. من خلال الرواية تصل إلى الصدق ومن خلال أبطالها تصل إلى نفسك وإلى الآخر) ففي الأعمال الروائية العظيمة وَجَدَتْ العلوم الإنسانية منجمًا عظيمًا واستبصارات كاشفة لفهم الإنسان وتحليل طبيعته وإدراك النماذج الشائعة فيه لذلك لم يكن غريبًا أن يؤكد أرنولد هاوزر في كتابه (فلسفة تاريخ الفن): (بأن أجلَّ الانتصارات التي حققتها البصيرة السيكولوجية والتي أصبحت في متناول أيدينا قد صدرت عن أساطين كُتَّاب الرواية والمسرح)، ويقول تودوروف في كتابه (روح الأنوار): (.. فقراءة رواية عظيمة قد تكون أكثر إضاءة لولوج خبايا السلوك البشري من قراءة دراسة سوسيولوجية)، ونجد التأكيدات ذاتها من داخل علم النفس والتحليل النفسي فلفرويد ويونج وغيرهما تأكيدات صريحة بأنهم وجدوا في الأعمال الأدبية العظيمة استبصارات قوية فَتَحَتْ لهم أبواب الفهم للطبيعة البشرية.. لم يكن سومرست موم روائيًّا فقط وإنما أبدع في عدد من مجالات الإبداع وقد كان كاتبًا غزير الانتاج فقد كتب أكثر من مئتي قصة وأكثر من ثلاثين رواية أما مسرحياته فما تم جمعه منها بلغ ستة مجلدات وله أيضا كتبٌ في الرحلات وفي النقد ولقد كان مهتمًّا منذ وقت مبكر من حياته بمحاولة فهم الطبيعة البشرية وكان يتأمل ويتابع ويلاحظ ويدون مشاهداته عن نماذج الناس وتقلُّبات البشر ومفارقات السلوك والظواهر والمفاجآت التي تنطوي عليها طبائع الناس.. وكانت قدراته النقدية والفكرية باهرة فمن يقرأ كتابه (عشر روايات خالدة) وكتابه (تجربتي في الأدب والحياة) يجد نفسه أمام ناقد بصير وباحث محيط ومفكر عميق وأديب فذ فلقد كان واسع الاطلاع وعميق المعرفة ودقيق الملاحظة، وشديد الشغف بكل أنواع المعرفة وكان صاحب رؤية فكرية نافذة فهو يُقَدِّم للقارئ استبصارات فذَّة وتأتيه بعبارات محكمة الصياغة وقليلة الكلمات تجعله يحسُّ بروعة التكامل بين جمال العبارة ونفاذ البصيرة وكمال الفكرة فمن ملاحظاته الدقيقة قوله:(قد تستطيع أن تُحدث دويًّا في العالم ومع ذلك تفشل بشكل مؤلم في التأثير على عائلتك). إنها القاعدة التي تمتد إلى كل المجالات فَأُمُّ الإمام أبي حنيفة تستفتي الوعاظ وتتجاهل ابنها الإمام العظيم لأنها تعرفه منذ طفولته وقد رسَخَتْ عندها صورته أيام ضعفه وجهله واحتياجه إليها في كل شيء.. إن القُرب يؤدي إلى الابتذال فالعشاق ينتهي بهم الزواج إلى التعرُّف ثم التكيف والتعود وزوال العشق.. والعرب قديمًا قالوا: زامر الحي لايُطرب.. فالتعايش مع أي واقع يذهب بروعته لذلك فإن الناس في المجتمعات المزدهرة يتذمرون أشد مما يتذمر الناس في المجتمعات المتخلفة فهم لايحسون بما هم فيه من تميُّز إن الناس يبقون مأخوذين بهالات البُعْد وسحر الغياب وأوهام الغموض أما بعد القُرب فتنقشع الهالاتُ ويزول السحرُ وتتبدَّد الأوهامُ.. هكذا هم الناس لايرضون بما هو متوفر وتغويهم الأوهام وينفرون من الحقائق.. إن وليم سومرست موم طاقة معرفية ومنجمٌ إبداعي رائع وكما يقول الدكتور عناد غزوان: (يؤلِّف وليم سومرست موم موسوعةً أدبيةً جليلةَ الشأن تجلَّت في آثاره التي تركها لنا في مسرحياته ورواياته وقصصه القصيرة ومقدماته في النقد وأدب الرحلات). إن موم كان يسكنه هاجسٌ مؤرق يدفعه نحو استكشاف كل ما يمكن استكشافه في دنيا الناس.. كان موم إنسانيَّ الرؤية كُلِّي المعرفة إنه المثقف المبدع وكما يقول د. غزوان:(موم كاتب انجليزي امتاز أدبه بوضوح الرؤية في الأداء والتعبير واتسم بتتابع الصور العالمية العامة وتجسيد النظرة الواقعية في فهم الطبيعة البشرية المتحررة من قيود الزمان والمكان). لقد حرص موم بأن يتعرف على طبيعة الإنسان بغض النظر عن انتمائه والزمن الذي عاش فيه والمكان الذي احتواه والثقافة التي تقولب بها.. لقد ركَّزت علوم النفس على الظواهر المرضية الفردية أما المعضلات الإنسانية الناشئة عن جهلنا بطبيعتنا فما زال الاهتمام بها دون المستوى المطلوب وحتى الكشوف العلمية المتعلقة بعلم نفس المجتمع انحصر الاهتمام بها على دوائر ضيقة فلم تمتزج في ثقافة المجتمع.. لذلك يكون مهمًّا تقديمها للناس عن طريق الفن خصوصًا الفن الروائي والفن المسرحي.. كان موم يدرك أن معرفة الطبيعة البشرية هي أهَمُّ المعارف وأشدها إلحاحًا وأعظمها نفعًا وكما يقول د. غزوان:(حاول موم من خلال تجاربه وخبراته وأسفاره ورحلاته أن يرسم لقارئه صورة صادقة عن مشكلات الإنسان الاعتيادي المعاصر). إن حَلَّ المعضلات الإنسانية أو التخفيف من المشكلات المزمنة مشروطٌ بفهم الطبيعة البشرية والاستجابة لما تقتضيه.. إن موم ككل الرواد والمبدعين قد عَرَفَ من تجربته أن تلبُّس المبدع بالهم واندفاعه إلى الكتابة واستغراقه فيها ليس اختيارًا حُرًّا وإنما يندفع إليها اندفاعًا تلقائيًّا حتميا وتستغرقه رغمًا عنه فيقول عن نفسه:(لقد بدأتُ الكتابة كأمر طبيعي لا انفكاك لي عنه كالوزَّة التي لا انفكاك لها عن الماء.. إنه ميلٌ قهَّار لا يقاوَم).. إنه يرى بحق بأن المبدع لايختار موضوع إبداعه وإنما الموضوع يفرض نفسه عليه فرضًا ومن هنا حسب قوله يحصل الإلهام.. أي أنه يكون مأخوذًا بفكرة تتأجج في داخله فلا يرتاح حتى يقوم بإفراغ الفكرة على الورق حيث تأتي انهيالاً بتدفق تلقائي ويقول في موضع آخر: (إن الكتابة عندي غريزة طبيعية كالتنفس) لكنه بالتجربة أدرك أن الأداء يختلف نوعيًا عن المعرفة النظرية فالاطلاع الواسع والمعارف المتنوعة حتى مع الموهبة ومع الاندفاع فإنه لابد من اكتساب مهارات الكتابة. لقد أدرك أنه يحتاج إلى التغذية الجيدة والتعبئة الكافية والمران الطويل والممارسة الكثيفة والإعداد المنظَّم فهو رغم اندفاعه التلقائي وموهبته الطبيعية قد انتبه:(إلى أن الكتابة فنٌّ دقيق لايأتي مطواعًا إلا بعناء ومشقة.. تكَشَّفَتْ لي هذه الحقيقة عندما بدأت آلاقي صعوبةً في نقل أفكاري إلى الورق.. كنت أكتب الحوار بيسر وسهولة ولكن كنت أجدني في ورطة وحيرة عند محاولتي كتابة صفحة وصْفيَّة فأقضي الساعة والساعتين أعالج جملتين أو ثلاثًا دون أن تُسلس لي قيادها فأستطيع تقويمها فعزمت على أن أعلم نفسي الكتابة)، وقد انتهى من ذلك كما يقول إلى أن البراعة في الكتابة تنبني بالاندفاع القوي والمران الدقيق والممارسة الكثيفة فالكاتب رغم أنه:(مدفوعٌ إلى الكتابة بغريزة داخلية) إلا:(أن عليه أن يكتسب خبرته.. ففي رأسه تزدحم الموضوعات دون أن تكون لديه المهارة اللازمة لمعالجتها وهو لايعرف كيف يستثمر ما أوتي من مواهب لقلة خبرته وعدم نضجه) فالأداء في كل المجالات فنٌّ فرديٌّ يختلف نوعيا عن المعارف المشتركة. إن الناس يتلقون معلومات متماثلة لكنهم في الأداء العملي يختلفون كاختلاف شخصياتهم وإن ازدحام المعلومات في الرأس لايؤدي إلى القدرة في الكتابة وإن إفراغ الفكرة على الورق بأسلوب أدبي رفيع يتطلب مرانًا دقيقًا وممارسةً كثيفة وعملاً منتظمًا مع ضرورة توفُّر الشرط الأساسي وهو الاهتمام التلقائي القوي المستغرق.. وليس الاندفاع القسري التلقائي مقصورًا على مجال دون آخر من مجالات الإبداع أو الكشف أو الإنجاز بل ها هو موم يقول:(نداء المسرح لايقاوَم.. أقصد الممثلين الذين يمتهنون التمثيل استجابةً لنداء داخلي فهؤلاء عندهم الموهبة الطبيعية وعندهم الرغبة في استعمالها) ولكن رغم الاندفاع التلقائي والموهبة السخية فإن اكتساب مهارات الأداء يتطلب جهدًا كثيفا وصبرًا لاينفد وكما يقول موم:(والتمثيل مهنةٌ تتطلب كدًّاً وجهدًا لبلوغ الكفاية بحيث إن الممثل بعد أن يتعلم كيف يؤدي مختلف الأدوار يكون في الأعم الأغلب قد تقدمت به السِّنُ حتى لم يعد قادرًا على القيام إلا بقليل من الأدوار.. إنها تتطلب منه صبرًا لاحَدَّ له وكثيرًا ما يجابه خيبة الأمل وعليه أن يتحمل فترات طويلة من الركود الاضطراري.. والمكافآت قليلة وقصيرة الأمد والربح غير كاف.. إنه تحت رحمة الحظ وعناية الجمهور القُلَّب.. والجمهور سرعان ما ينساه إن لم يعد قادرًا على إيناسه إن حبهم له لن ينقذه من المسغبة). هكذا هم المبدعون والرواد يحترقون من أجل أن يضيئوا الطريق للإنسانية لكنهم يعيشون مغبونين ويموتون من غير أن ينالوا الاعتبار الذي يستحقونه.. إننا ننظر بسذاجة إلى البراعات الخارقة والإبداعات العظيمة ونتوقعها ممن لايملك منها شيئًا فالمهارات والإبداعات ليست من ثمار التعليم القسري أو الاضطراري مهما علَتْ ألْقابه وإنما هي نتاجُ مجموعة من الظروف التي لم يُخطَّط لها وكما يقول سومرست موم:(حين أعيد النظر في حياتي لايسعني إلا أن ألاحظ أن ما أثَّر فيَّ أعظم الأثر يرجع فضله إلى الظروف التي لايسهل فصلها عن كونها مجرد مصادفات)؛ لذلك تلفظ الجامعات كل عام أفواجًا من الخريجين لينخرطوا في أعمال وظيفية في مختلف المهن التي تسود فيها الرتابة والتكرار أما الإبداع فهو من الخصائص الفردية التي لايمكن تعليمها وقد أصاب أوسكار وايلد بقوله:(يجب أن نتذكر أن أي شيء يستحق المعرفة لايمكن تعليمه) بل تصنعه الظروف والمواهب والاهتمام التلقائي القوي المستغرق.. إن موم ليس مبدعًا فقط بل يملك بصيرة نقدية نافذة وقد طلبتْ منه مجلةٌ أميركية متخصصة أن يكتب لها عن أعظم عشر روايات خالدة فأنجز كتابًا رائعًا حلَّل فيه رواية الحرب والسلام لتولستوي وَوَصَفها بأنها:(أعظم رواية.. فلم يسبق أن كُتبَتْ رواية تضارعها في الضخامة وتعالج مثل هذه الفترة الحاسمة من فترات التاريخ وتتناول هذه المجموعة الكبيرة من الشخصيات ولقد قيل عنها بحق إنها ملحمة ولا أستطيع أن أجد عملاً روائيًّا آخر يمكن أن نصفه هكذا ونكون محقين في وصفنا)، ولم يكن موم منفردًا بهذا التقييم لرواية الحرب والسلام وإنما يتكرر مثل قوله كثيرًا وكما جاء في كتاب (ثبات الأحكام الجمالية) لكارول برات:(إن هناك اتفاقًا ساحقا على أن الحرب والسلام لتولستوي هي أعظم رواية كتبتْ على الإطلاق). أما الرواية الثانية الخالدة في نظر موم فهي رواية (الأب جوريو) لبلزاك وهو يصفه بأنه:(أعظم الروائيين الكبار الذين أثْروا بأعمالهم كنوز العالم الروحية كان بلزاك عبقريا وعلى قدر كبير من الخصوبة أما ميدانه فالحياة بأكملها في عصره أما حدوده فممتدة إلى الآفاق البعيدة وكانت له خبرة واسعة بالناس) وهو يؤكد أنه رغم أن رواية الحرب والسلام لتولستوي هي أعظم رواية إلا أنه بالمقارنة بين مجموع إبداعات تولستوي ومجموع أعمال بلزاك فإن بلزاك يتقدم.. أما الرواية الثالثة الأعظم في نظره فهي رواية (توم جونز) لهنري فيلدنج وينتهي من تحليله لهذه الرواية إلى الاتفاق مع الناقد جورج سانيتسبري الذي كتب يقول:(توم جونز ملحمة حياة.. تُصَوِّر الحياة العادية الصحيحة للإنسان العادي الطبيعي ذلك الإنسان الذي لايخلو من أخطاء وليس كاملاً على أي نحو من الأنحاء لكنه إنسانٌ وواقعيٌّ وبالقدر الذي لم نر له مثيلاً في عالم مشابه إلا عند شكسبير). أما الرواية الرابعة من بين الروايات العشر الخالدة في نظر موم فهي رواية (الكبرياء والهوى) لجين أوستن.. فهو يرى أن هذه الرواية:(مُحكمة البناء للغاية.. فالحوادث يتبع بعضها بعضًا بطريقة طبيعية كما أن إحساس القارئ بإمكان وقوع هذه الحوادث يظل سليمًا). أما الرواية الخامسة التي يراها رواية خالدة فهي رواية (الأحمر والأسود) للمبدع الفرنسي ستاندال فهي في نظر موم:(رواية من أروع الروايات التي كُتبتْ والقارئ الذي يطالعها إنما يمر بتجربة فريدة). أما الرواية السادسة من الروايات العشر الخالدة في نظره فهي رواية (ويذرنج هايتس) لإميلي برونتي وقد وَصَفَ الرواية بأنها: (الكتاب القوي الرهيب.. ليس ويذرنج هايتس بالكتاب الذي يتحدث عنه المرء وإنما هو كتابٌ يقرأه المرء.. يتمتع بشيء قلما استطاع الروائيون أن يقدموه وهو القوة ولا أعرف كتابًا وَصَفَ الألم والنشوة والضراوة واستبداد الحب بمثل الروعة التي وَصَفَ بها ويذربح هايتس هذه الأشياء). أما الرواية السابعة من الروايات العشر الخالدة في نظره فهي رواية (مدام بوفاري) لجوستاف فلوبير.. فعنه يقول موم:(كان جوستاف فلوبير رجلاً غير عادي ويرى الفرنسيون أنه كان عبقريا.. لقد اصطنع (ابتكر) فولبير الرواية الواقعية الحديثة وتأثر به كلُّ كُتَّاب الرواية منذ ذلك الحين.. فلوبير استطاع بكتابه (مدام بوفاري) أن يهيئ لنفسه مكانًا بين أعظم كُتَّاب الأساليب في فرنسا.. إننا نستطيع أن نتعلم الكثير من فنه سواء في النظرية أو التطبيق ما يفيد أي كاتب في أي بلد.. لقد اعتنق فلوبير حكمة بوفون التي تقول: (إنه لكي يجيد الإنسان الكتابة فعليه أن يجيد الإحساس والتفكير والحديث). أما الرواية الثامنة من الروايات العشر الخالدة فهي في نظره (ديفيد كوبر فيلد) للمبدع الانكليزي تشالز ديكنز ويرى موم أن ديكنز كان شديد الاهتمام بالإصلاح الاجتماعي وأن اهتمامه ودفاعه الدائم عن الفقراء والمظلومين كان ناجعًا أما الرواية (ديفيد كوبر فيلد) فهي في نظر موم تمثل قصة حياة ديكنز نفسه.. وبالإضافة إلى ذلك كما يقول موم:(فالرواية مليئة بشخصيات متنوعة إلى حد يثير الدهشة كما أنها على قدر هائل من الحيوية والأصالة). أما الرواية التاسعة من الروايات العشر الخالدة كما يراها موم فهي رواية (الأخوة كرامازوف) للمبدع الروسي دستويفسكي.. فموم يرى أن رواية:(الأخوة كرامازوف واحدة من أعظم الروايات التي كُتبتْ على الإطلاق وتقف في مقدمة مجموعة صغيرة ورائعة من الفن الروائي التي تختلف عن غيرها من الروايات رغم عظَمَة تلك الروايات)، ويقول في موضع آخر:(إن عظَمَة الأخوة كرامازوف هي عَظَمة الموضوع). إن موم يرى أن الرواية تعالج مشكلة الشر في الوجود وهي في نظره مسألةٌ لاتزال تنتظر الحل.. أما الرواية العاشرة من الروايات العشر الخالدة فهي في نظره رواية (موبي ديك) للمبدع الأميركي هرمان ملفل.. يورد موم قول الناقد ريموند ويفر عن ملفل:(إن أسلوبه في الكتابة ونظرته إلى الحياة تُعَرِّضنا لتغيير شامل بسبب تجربة نفسية غريبة.. تجربة لم تُفَسَّر أبدًا على وجه التحديد)، ويرى موم بأن ويفر:(قد وضع يده على المشكلة التي لابد أن تُحَيِّر كل من يهتم بملفيل) وينتهي موم من تحليل هذه الرواية العظيمة المدهشة إلى القول: إن موبي ديك كاتبٌ عظيم بل عظيم جدا.. ويقول موم بأنه كان في البداية قد وضع رواية (البحث عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست ضمن القائمة لكنه قد استبعدها لسببين: (فرواية بروست وهي أعظم رواية في القرن العشرين قد بلغت من الطول حدًّا بالغًا وقد يكون من المستحيل اختصارها إلى حجم معقول)، ثم يقول:(لقد حققت هذه الرواية نجاحًا ساحقًا ولكن الوقت لم يحن بعد لتقييم حظها من الخلود) وهكذا استبعدها لأنه لم يمض على صدورها من الزمن ما يؤكد استحقاقها للخلود فهي في نظره مازالت في مرحلة الرصد والتقييم.. إن المساحة المتاحة لهذه المقالة لاتسمح بالمزيد فأكتفي بتأكيد أنني لا أستهدف التعريف بهذا المبدع العالمي وإنما أُقَدِّمه شاهدًا من شواهد عبقرية الاهتمام التلقائي.

مشاركة :