إن وايتهد يؤمن بأن أكثر الناس يبقون منقادين وذائبين في التيار العام مهما تلقوا من تعليم فلولا الريادات الخارقة التي تزلزل القناعات الجامدة لبقيت البشرية تجتر تصوراتها الجامدة وتعيش أوضاعًا متحجرة مهما امتد الزمن ومهما تعاقبت القرون.. بعد الثورة الصناعية في بريطانيا ثم في أوربا وأميركا الشمالية وفي بلدان أخرى وبعد تبدل واتساع وظائف الدولة حيث لم تعد الدولة فقط دولة الأمن وإنما صارت بالدرجة الأولى دولة الخدمات فنشأت احتياجات جديدة تتنامى باستمرار إلى مختصين وموظفين يؤدون هذه الخدمات المتنوعة النامية الطارئة وهذا التغير الكبير في تنوع وتطور وظائف الدولة مع متطلبات التنمية الصناعية والاقتصادية واكتشاف أن الطاقة الإنسانية: علماً ومهارة وإنتاجاً هي الثروة الحقيقية المتجددة.. كل هذه المتغيرات استوجبت نشأة التعليم النظامي وتعميمه في أوربا ثم في كل العالم فهو بكل مراحله وكافة مستوياته ومختلف أنواعه منذ نشأته كان ومازال يستهدف إعداد المهنيين لمختلف مجالات العمل ولكل المستويات المهنية كالطب والهندسة والتمريض والمحاسبة والمحاماة والإدارة والتعليم وغيرها من مختلف الوظائف المهنية حتى الذين يتجهون لمجالات البحث العلمي هم أساساً يمارسون أعمالا مهنية تحت إشراف وتوجيه ممارسين سابقين أما الإبداعات فهي دائما فردية قبل تعميم التعليم وبعد تعميمه فالخروج من المستوى المهني والانطلاق في آفاق الإبداع لا يتحقق إلا نادرًا وهو غير ممكن إلا باهتمام ذاتي تلقائي قوي مستغرق تؤججه أفكار فردية عميقة طارئة غير سائدة.. وقد كان وايتهد من أولئك القلة الذين يستغرقون في مجالات اهتمامهم بدوافع تلقائية قوية مستغرقة إنهم في الغالب لا يستطيعون كبحها بل تؤجج وجودهم رغما عنهم وقد جعله هذا الاندفاع التلقائي مع الإيمان بالتفرد والمغامرة والحرص على حماية الذات من الذوبان في القطيع واحدًا من أبرز فلاسفة القرن العشرين وكان شغوفًا بالمعرفة منذ طفولته وقد أهَّلته مواهبه وشغفه وتركيزه القوي ليصير أحد قادة الفكر في العالم فقد كانت له رؤى مهمة عن عوامل التطور الحضاري ومعوقات التنمية وقابليات الإنسان للتحجر أو التطور كما كانت له رؤى عميقة وأصيلة في مجالات الفلسفة والعلم والتربية والسياسة والإدارة والاجتماع ومختلف القضايا الإنسانية المحورية وهو يلفت النظر إلى أهمية الفلسفة فالعلوم تهتم بتكوين رؤى عن الأشياء الجزئية فلابد للفكر الإنساني من إطار فلسفي جامع : (إن مهمة الفلسفة النظرية تنحصر في تكوين إطار متماسك منطقي ضروري من الأفكار العامة التي تسمح لنا أن نفسر كل عنصر من عناصر تجربتنا) وأظن أن المترجم لم يوفق في اختيار كلمة (تنحصر) لأن وايتهد يعتبر أن الفكر النقدي هو أهم عناصر الفلسفة.. ومع أن وايتهد عالم رياضيات صارم وفيلسوف عميق فإنه شديد الاهتمام بمختلف الفنون ويتحدث عنها بعناية وعمق كما أنه يتذوق الشعر ويؤمن بأهميته فيقول: (إن خلود الشعراء لهو الدليل المادي القاطع على أنهم يعبرون عن حدس إنساني عميق استطاعت الإنسانية بمقتضاه أن تنفذ إلى ما في الواقعة الفردية من طابع كلي شامل) هكذا هو وايتهد لا يستهين بأي جانب من جوانب الإبداع الإنساني بل يهتم بالفلسفة مثلما يهتم بالعلم ويهتم بالفنون ويعتبرها دلالة العبقرية الإنسانية.. أما عموم الدارسين حتى في أشد المجتمعات ازدهاراً فمن المعروف أنهم يلتحقون بالتعليم العام للتلقي ومحاولة الاستيعاب لما هو جاهز ومستقر من المعارف والفنون من أجل التأهيل المهني أما أفراد القلة المبدعة فهم يأتون غالباً بعقول مفتوحة ناقدة ومستنفرة ويكون هؤلاء الأفراد متهيئين نفسيا وذهنيا للإضافة والتصحيح والتجاوز والمغامرة.. والشواهد على ذلك هي بقدر ومضات الحالات الإبداعية التي هي بطبيعتها نادرة.. وقد كان وايتهد جاهزا بعقل مفتوح وفكر متأهب حين التحق بالتعليم كأمثاله من الرواد فقد تلقى في المنزل تعليما منتقى بعناية أنجاه من كثرة المواد كما حماه من التأطير المدرسي حيث لم يلتحق في التعلم العام إلا في الخامسة عشرة من العمر أي بعد أن تشكَّل عقله تشكُّلا حُرًّا فبقي منفتحا على الآفاق ومتهيئا للاقتحام والاختراق فقد جاء التحاقه في التعليم الجمعي بعد أن تثقف وتحدَّد اتجاه تفكيره ومسارات اهتماماته... إن المهتمين يعرفون بأن وايتهد شخصية علمية وفلسفية ذات مكانة عالمية ولكن شهرته لا تأتي من تخصصه الأكاديمي في الرياضيات رغم إبداعه فيه وإنما جاءت من اهتماماته التلقائية العميقة المغايرة التي تمخَّضَتْ عن إنتاج عظيم تميَّز بالغزارة والعمق والأصالة وحقَّق له مكانة عالية بين المفكرين الخالدين لقد دَرَس الرياضيات وأبدع في مجال تخصُّصه إبداعًا معتَرَفًا به على المستوى النظري البحت وعلى المستوى التطبيقي لأنه اتجه إلى هذا التخصص برغبة تلقائية وعِشْق عميق ثم بمحض اهتمامه التلقائي القوي المستغرق تحوَّل إلى اهتمامات فكرية تأسيسية من أجل إنسانية أكثر انسجامًا وأعظم ازدهارًا وأعمق تحضُّرًا وألَّف عددًا من الكتب المهمة وقدَّم رؤى وأفكارًا عميقة ومتنوعة فصار أستاذًا للفلسفة في هارفرد ولم يكن تأثيره من خلال عمله استاذًا في الجامعة فقط وإنما كان بيته بمثابة منتدى للفكر وملتقى للمهتمين.. والأهم من ذلك أنه أنجز مجموعة من المؤلفات المتنوعة العميقة التي صارت مصادر خصبة للفكر الخلاق والرؤى الملهمة فصار إنتاجه موضوعًا للدراسات والأطروحات الأكاديمية وامتد تأثيره إلى مختلف الثقافات فقد كان متنوع الاهتمامات وعميق التفكير على نحو باهر فَكُتُبه في فلسفة الحضارة وتأثير الأفكار الخلاقة وفلسفة الاجتماع وفلسفة التربية وفلسفة الإدارة هي مصادر لا تنضب للفكر الذي يجمع بين العمق والاتساع والأصالة والمغامرة.. وقد ألَّف عنه في اللغة العربية أستاذ الفلسفة الدكتور علي عبد المعطي محمد كتابًا ضخمًا استغرق أكثر من ست مئة صفحة.. فتخيَّل كم كتابًا صدر عنه في مختلف اللغات..؟! ويقول عنه هذا المؤلِّف بأن فكره مرَّ بثلاث مراحل وقد كان جادًّا ومنتجا بعمق وغزارة في كل هذه المراحل لقد كانت جدِّيته مذهلة ففي شبابه كان يحفظ عن ظهر قلب كتاب (نقد العقل المحض) لكانط رغم أنه كتابٌ ضخم وصعب وبعيدٌ عن مجال اختصاصه في الرياضيات وهذا شاهدٌ واحدٌ من شواهد كثيرة تشهد بأنه كان متنوع الاهتمامات وأنه شديد الرغبة في المعرفة وقد انجلى ذلك عن عملاق فلسفي باهر.. إن وايتهد شخصية أكاديمية وعلمية وفكرية وفلسفية عالمية وقد كان فكره موضوعًا لأطروحات أكاديمية متنوعة في مختلف جامعات العالم وعلى سبيل المثال فإن المؤلف العربي المعروف أستاذ الفلسفة زكريا إبراهيم قد نال الدكتوراه من السوربون بأطروحة عن (المشكلة الدينية عند وايتهد) وما هي سوى نموذج لأطروحات كثيرة في مجالات متنوعة في مختلف جامعات العالم عن وايتهد وفكره وفلسفته.. إن عناوين مؤلفاته خارج مجال تخصُّصه توضح عَظَمة وتنوع إسهاماته فمن كتبه (تنظيم الفكر) و(بحثٌ في مبادئ المعرفة الطبيعية) و(تصوُّر الطبيعة) و(أصول النسبية) و (العلم والعالم الحديث) و (المذهب الرمزي: معناه وأثره) و(أهداف التربية) و(العملية والواقع) و(وظيفة العقل) و(مغامرات الأفكار) و(الطبيعة والحياة) و(أنماط الفكر) و(مقالات في العلم والفلسفة) إنه متوثب العقل ويدعو الآخرين إلى التوثب والمغامرة ويؤكد أن: (اليقين الصارم هو الذي يغتال الحقيقة) إن الوثوق المطْلق بامتلاك الحقيقة يصيب الفكر بالجمود ويقول: (إن الحقيقة تموت حين يحاول الناس أن يقننوها في تصورات ثابتة أو في نظام ثقافي تتوارثه الأجيال) ويستهجن أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة ويُحَذِّر من تجميد الفكر والحياة بهذه الأوهام الساذجة.. ويؤكد وايتهد بأن (النظام الاجتماعي يتطور بقدرته على إدراك جوانب النقص فيه وبأن الاستمتاع بالسطوة يقتل التماعات الحياة) كما يؤكد بأن الإحساس بالكمال وتوهُّم الاكتفاء من أشد عوائق التقدم على المستويات الفردية والاجتماعية والإنسانية ويطالب بأن نستشعر اللاكمال وأن ننطلق دائمًا من الشعور بأولوية وتلقائية وأصالة النقائص لأن هذا الشعور هو شرط التحرر النسبي من النقائص والسعي نحو الكمال فهذا السعي يجب أن يتواصل لأن النقائص ذات وجود كثيف وتلقائي أما النمو الفردي والاجتماعي والحضاري فلا يحصل تلقائيا وإنما هو ثمرة الجهد الكثيف المنظم وهو لمن ينشدونه ويسعون إليه مفتوح الآفاق ولا نهاية له فالكمال ليس شيئًا يمكن امتلاكه ولكنه آفاق حافزة مفتوحة فلابد أن يتواصل السعي إليها من غير توقف فيقول: (هنالك كمالات وراء اللاكمالات .. وليس هنالك كمالٌ هو نهاية الكمالات ) وإنما الكمال حلمٌ متحرك نسعى إليه وأُفُقٌ مفتوح يفضي إلى اللانهاية التي تغري بمزيد من النمو والكمالات... إن الكمالات عنده متعددة في أنماطها ومتنوعة في مساراتها وهي مختلفة وأيضا متناقضة فلنُبْق على الإحساس باللاكمال الهادف إلى مستويات أعلى وأنبل وأخصب إن على الإنسان أن لا يقنع بما هو متحقق مهما كان وعليه أن يستطيب المغامرة في مجالات الفكر والفعل : (لأن المغامرة ضرورية) وهي تعني: (البحث عن كمالات جديدة) ويرى أن الأمة حين تخبو فيها: (حرارة المغامرة) فإن نبوغها يختنق بالتكرار: (.. لأن الحضارة ليست إلا الجهد الذي لا يفتر ولا يهدأ من أجل الحصول على الكمالات..). إنه يؤمن إيمانًا عميقًا بأن على الإنسان أن لا يُسْلم ذاته وعقله وعواطفه لآخرين أو للبيئة تمسخها أو تشحنها بما هو ضار أو مبلِّد للعقل بل يرى بوضوح أن: (في المغامرة وحْدها حيوية الفكر) بل إنه يؤكد أن هذا المعنى يستغرق كل تفكيره وجهده فهو حين يؤكد على أن حيوية الفكر تكمن في المغامرة وحدها يعقبها بقوله: (هذا ماقلته طيلة حياتي ولم أقُل سواه إلا قليلاً) فكأنه يريد الإفصاح بأن هذه الفكرة المحورية هي لُبُّ فلسفته وجوهر رسالته.. وقد ألَّف عنه البرفيسور جونسون كتابًا يحمل عنوان (فلسفة وايتهد في الحضارة) وقد تَرجم الكتاب الدكتور عبدالرحمن ياغي.. يقول جونسون (كان وايتهد مثالاً نادرًا فكان على اتصال وثيق بالطبيعيات وعلم الفلك والتاريخ والأدب والتفكير الديني والفلسفة بل كان متفوقاً في هذه جميعًا) إن قابليات الإنسان غير محدَّدة فهي تستجيب لكل ماينضاف إليها بشرط أن يكون الفرد مندفعًا باهتمام تلقائي قوي مستغرق.. كان يدرك قابلية العقل البشري للتبرمج التلقائي أو المقصود بأي شيء والتكيف مع أي وضع والتعود على أي تفكير أو فعل أو سلوك وكان يعلم أن هذه مزية عظيمة ولكنها نقيصة فادحة فهي تتيح تعبئة القابليات بأدق المعارف وأصح التصورات وأرفع المهارات وأنبل الأخلاق لكنها أيضا معضلة كبرى تواجه الأفراد والمجتمعات والإنسانية كلها فقابلية التبرمج التلقائي للأطفال في مختلف البيئات بالمتنافر من الثقافات قد خلقت تنافرًا مزمنًا وعميقًا بين الأمم وبدلاً من أن تسعى الأمم إلى اعتماد العلوم والتحرر من العوائق الثقافية فإنها تعمل العكس حيث تكرس كل أمة حواجزها الثقافية وتبقى مسجونة ذهنيًّا وعاطفيًّا داخل هذه السجون المتمايزة فالأصل أن القابليات تتبرمج غالبًا بما يجب التحرر منه وليس بما يجب ترسيخه لكن رسوخ هذا التبرمج وكونه يجري من الذات جريان الدم ويسري فيها سريان الحياة فإنه يجعل التحرر منه في غاية الصعوبة لذلك فإن وايتهد يدعو إلى استنفار العقل وإلى حث كل فرد على الخروج من سجن الانتظام التلقائي البليد في السائد إنه يحتج ضد التفكير التعليمي الجامد الذي ينمط العقول فيقول : (ما أخشاه هو أن يُفرَض على الناس نظامٌ صلبٌ فتجمد فيهم تلك الصفة الرقيقة: مقدرتهم على ابتكار الآراء والأفكار الجديدة أو اكتشاف الأوجه الجديدة في الآراء والأفكار القديمة ويستمرون على ذلك قرنًا بعد قرن إلى أن ينحدر الإنسان ومجتمعه إلى مستوى الحشرات من الجمود.. ففي المغامرة وحْدَها حيوية الذهن) إنه يرى أن قدرة الإفلات من قبضة التكيف والتعود والانتظام في السائد هي قدرة رقيقة ضعيفة فمن السهل إخمادها والقضاء عليها بل إنها تخمد تلقائيًّا مالم يتكرر استنفارها لذلك فهو يدعو كل الناس إلى استشعار هذا الخطر المحدق والعمل على تفاديه والتحرر منه واستنفار تفكيرهم دائمًا لمواجهته والتحسُّب له.. إنه يعارض بكل شدة التعليم عن طريق معلِّم يتحدث وتلاميذ يستمعون فالتعليم ليس تسميعًا وإنما هو تفاعلٌ حيٌّ ويسمي التعليم التلقيني(التعليم بواسطة) فهو يرى أن الإنسان لا يتعلم بهذه الطريقة السلبية وإنما يتعلم حين يدخل في حوار مع طرف آخر أو مع مادة يفككها أو يبنيها إنه يتعلم حين يشترك جسده مع عقله وخصوصًا اليدين فاليد مكملة للعقل وموقظة لفاعليات الإنسان ويقول:(يوجد تأثيرٌ متبادلٌ بين النشاط الذهني والنشاط الجسمي الخلاب ولليدين في هذا التأثير المتبادل أهمية خاصة فعدم استعمال اليد في العمل هو من أسباب الانحلال الذهني) ويقول: (فالمعرفة المباشرة هي الأساس الأعظم للحياة الذهنية أما التعليم بالكتب فيقدم المعلومات بالواسطة وليس مباشرًا ولهذا لا يمكن أن يرقى إلى أهمية الممارسة) ويؤكد بأن علينا: (أن نرى الحوادث المباشرة أما الكتب فتقدِّم لنا معلومات مأخوذة من أفكار مستقاة من معلومات مارسها آخرون وهذه المباعدة بين عالم الكتب والواقع هي سبب تفاهة طبقة فئران الكتب وأما جبنهم فسببه أنهم لم يواجهوا الواقع فأعظم ميزة لتعليم علمي يجب أن تكون إقامة التفكير على الملاحظة المباشرة) إن نتائج التعليم في كل مكان تشهد بوضوح على صدق هذه الرؤية فالتعلُّم لايأتي حقنًا ولا بالاتجاه إليه اضطرارًا وإنما هو خبرة شخصية وفاعلية جياشة بالتفكير الناشط والممارسة الفاعلة والاهتمام التلقائي القوي المستغرق.. إن وايتهد يؤمن بأن أكثر الناس يبقون منقادين وذائبين في التيار العام مهما تلقوا من تعليم فلولا الريادات الخارقة التي تزلزل القناعات الجامدة لبقيت البشرية تجتر تصوراتها الجامدة وتعيش أوضاعًا متحجرة مهما امتد الزمن ومهما تعاقبت القرون.. إنه يرى أن المجتمعات تبقى مأخوذة بتلقائية الغرائز إلا إذا هي استجابت للأفكار الخلاقة ثم إنها بحاجة بعد ذلك إلى الحكمة التي تمنحها البصيرة فالمجتمعات في رأيه تمرُّ بمرحلة الغريزة أو الفطرة ثم تنتقل إن هي استجابت للرواد إلى مرحلة الفكرة التي تقوم على الذكاء المتوقد والفكر الخارق والمغامرة الجسورة وليس على التقليد البليد ثم تحتاج إلى البصيرة النافذة التي تكتسب بها الحكمة التلقائية.. لذلك فإنه يعطي التشبُّع والانتظام التلقائي في الحياة الاجتماعية والأداء المهني والعمل دورًا أساسيًّا فالأفكار الخلاقة من نصيب القلة المبدعة وقادة الفكر والرأي والفعل أما جموع الناس فيتحركون ويتصرفون وفق الروتين الذي كرروه فاعتادوا عليه وتكيفوا معه وتشربوه وتشبَّعوا به فهم يتحركون ويعملون ويمارسون أعمالهم بتلقائية نتجت عن التكرار والتشبُّع والتعود فالحياة الإنسانية ما هي إلا سلسلة من العادات الفكرية والسلوكية ينساب منها التفكير والتصورات والسلوك والأداء انسيابًا تلقائيًّا إنها مؤطَّرة بالحس العام المشترك إن الولاءات والاهتمامات التلقائية العميقة لا تتكوَّن بتجرُّع التعليم وإنما تتشرَّ بها القابليات تلقائيًّا فالناس في كل المجتمعات يتبرمجون في طفولتهم ويكتسبون اللغة واللهجة وطريقة التفكير وأنواع الاهتمام ومنظومة القيم بشكل تلقائي وبهذا التشرُّب التلقائي تتشكل البنيات الذهنية والوجدانية فيتحدد اتجاه النشاطات وأسلوب الحياة..
مشاركة :