تخصّص في الطب وأبدع في الأدب ونقْد الواقع - إبراهيم البليهي

  • 9/14/2014
  • 00:00
  • 23
  • 0
  • 0
news-picture

الفن المسرحي والإبداع الروائي والقصصي والفن التشكيلي وفن النحت وغيرها من فنون التعبير الحديثة لم تكن ضمن موروثنا الثقافي العربي وإنما هي عناصر جديدة وافدة على بيئتنا وبسبب ذلك لا يحظى المبدع خارج دائرة المبدعين والمثقفين بالمكانة التي يستحقها ولا الاحتفاء الذي يليق به بعكس الشاعر الذي اعتاد العرب على تمجيده والاعتراف بتفرُّده الفيلسوف العالم الأكاديمي المبدع أمبرتو إيكو حرص بأن يُشير إلى صعوبة النجاح في محاولات الإبداع الروائي فلم يتردد في تأكيد أن أدراج كثير من الأساتذة الجامعيين في مختلف بلدان العالم مليئة بمحاولات روائية فاشلة حيث أخفقوا في هذه المحاولات.. ومثل هذا التأكيد جاء أيضا من الناقد المعروف الدكتور رشاد رشدي فقد لَفَتْ النظر إلى أن الشخص قد يكون عالمًا أو فيلسوفًا أو أستاذًا جامعيًّا لكن ذلك لايمنحه القدرة على الإبداع في الشعر أو الفن القصصي أو الفن الروائي أو غير ذلك من أنواع الفن الرفيع.. أقول ذلك لأن الكثيرين لايدركون أهمية أن يكون الشخص مبدعًا روائيًّا أو قاصًّا يستخدم فنه الرفيع الصعب للتنوير والتحديث كما هي حال الطبيب الأديب يوسف إدريس فالإبداع الروائي شديد التركيب والتعقيد ويندر في العالم كله من يملك الموهبة فيه والقدرة عليه فيجيده ويجتاز صعوباته وينجح في بنائه، إنه نتاجُ موهبة نادرة فهو امتيازٌ خاص وتَفَرُّد لاعلاقة له بالتخصص الدراسي ولا يمكن أن يُسفر عنه التعلُّم اضطرارًا أيّا كان مجال الدراسة ومستواها والشهادات التي تنتهي إليها وإنما هو ثمرةُ أن تعيش متوقدًا وأن تتعلَّم اندفاعًا وأن تعمل تدفُّقًا إنه نتاج الاهتمام التلقائي القوي المستغرق ولكن هذا المستوى الرفيع من الاهتمام المتوقد لايأتي اختيارًا بل هو صفةٌ أساسية في تكوين الفرد المبدع يغلي بها كيانه ويتوقد بها عقله ويتأجج بها وجدانه فقد كان يوسف إدريس كغيره من المبدعين يتوقد باهتمام تلقائي قوي مستغرق، إنه مهمومٌ بقضايا مصر وشؤون الأمة وأحلام التحديث وطموحات التنوير فلم يستغرق بالعمل المهني الرتيب وإنما استغرق اندفاعًا في الهم العام.. لقد أدرك يوسف إدريس كما صرَّح بذلك أن مهنته في الطب يمكن أن يقوم بها غيره أما مهمته التنويرية ووسيلتها الإبداعية فلا تأتي تلقينًا وإنما هي عَصْفٌ داخلي لايهدأ فهي من نصيب ذوي الاهتمام التلقائي القوي المستغرق وهم أقلية في كل الأزمنة والأمكنة ومن أقواله في هذا الصدد: (وجدت نفسي مجرد طبيب مع آلاف من الأطباء نعالج (أفرادًا) من أمراض هي في أغلبها نتيجة التخمة والإسراف بينما هناك أكثر من عشرين مليونًا من أبناء شعبنا يعانون من أمراض حقيقية نتيجة الجوع والفقر.. أمراض تَشلُّ وتُجَنِّن وتَقتُل ولا أحد يعالجهم حتى أطباء الأرياف مشغولون بمعالجة العُمَد والمشايخ والأعيان والقادرين). لقد كَتَبَ هذا النص في الستينيات حين كان عدد المصريين عشرين مليونًا وهذا يعني في نظره أن كل المصريين يعانون من الجوع والفقر والتعاسة باستثناء الارستقراطيين المترفين الذين هم أقلية في المجتمع المصري الفقير وهكذا رأى يوسف إدريس أن شعبًا يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة حيث يعيش بؤسًا قاتلا وهوانًا مستشريا يسلب الإنسان إنسانيته فلا يجد الغذاء الكافي ولا السكن المناسب ويشرب ماءً ملوثًا، ويعيش تعاسة شاملة إن هذا الشعب البائس ليست حاجته الملحة هي الحاجة إلى طبيب يعالج فردًا وإنما تشتد حاجته إلى من يوقظه من سباته ويفتح عيونه على مشاكله ويدفعه إلى الاستنارة والانفتاح ويساعده على الخروج من أسْر الواقع والانفكاك من أغلال التاريخ.. في بداية المشوار الإبداعي ليوسف إدريس لَفَتَ أنظار النقاد بقوة فأدركوا أنهم أمام موهبة إبداعية عظيمة فَوَصَفَه الناقد الدكتور لويس عوض بأنه: (أديب من أدباء الطليعة ورائدٌ من رواد المدرسة الواقعية) وقال عنه إنه: (كاتبٌ موضوعي وليس كاتبًا ذاتيّا.. إن يوسف إدريس كاتبٌ واقعيٌّ بالمعنى السامي.. وآية ذلك هي موضوعيته). إن الدلالة المهمة لتقييم لويس عوض آنذاك تأتي من أنه جاء في بداية المشوار الإبداعي ليوسف إدريس أما بعد تدفُّق إبداعاته فقد تنامى الاهتمام به وتنوعت الدراسات التي اعتنتْ به فتابعه واهتم به وكتب عنه كثيرون يأتي في مقدمتهم طه حسين ولويس عوض ومحمد مندور وحسين فوزي وعلي الراعي وعبدالقادر القط ورشاد رشدي وصلاح عبدالصبور وأنيس منصور ورجاء النقاش وشكري عياد ومحمود أمين العالم وغادة السمان ومحمد عودة وغيرهم من النقاد والباحثين والدارسين.. لقد صارت إبداعات يوسف إدريس ومازالت موضوعًا متجددًا ليس فقط للنقاد ومؤرخي الأدب والدارسين وكُتَّاب المقالات وإنما أيضا لأطروحات رسائل الدكتوراه وبحوث الماجستير في الأدب ومن آخر الدراسات الضافية التي صدرتْ عنه أطروحة دكتوراه ضخمة استغرقتْ (731) صفحة ليست عن يوسف إدريس الطبيب وإنما عن (فن القص عند يوسف إدريس) وهي رسالة الدكتوراه التي أنجزها التونسي البشير الوسلاني.. وليست هذه الأطروحة الضخمة عنه سوى نموذج من الدراسات المتعددة التي انشغلتْ بإبداعاته فقد حصلت نوال زين العابدين على الدكتوراه برسالة بعنوان (روايات يوسف إدريس: دراسة بنيوية توليدية) كما حصلت الشاعرة نجاة علي على الماجستير برسالة بعنوان (المفارقة في قصص يوسف إدريس القصيرة) كما حَصَل أيضا مجدي العفيفي على الماجستير ببحث يقع في (439) صفحة بعنوان (لغة الأعماق البعيدة) وهو بحثٌ حافل عن (فن القصة القصيرة عند يوسف إدريس) وقد وصفه الدكتور أحمد الحجاجي بأنه: (عمل فريد) كما كتب الحجاجي يقول: (لم أشعر في يوم من الأيام بقيمة كاتب قصة قصيرة مثلما شعرت بيوسف إدريس كان بالنسبة لي معلِّما عميقًا وقويّا وقادرًا على أن يعيش داخلي) ثم أشار الحجاجي إلى إحدى قصص يوسف إدريس وأكد أنه: (استطاع فيها أن يهز الضمير المصري) لقد كان يوسف إدريس ناقدًا حادّا مثيرًا لأنه يفيض صدقًا فلا يسكت عن الخطأ حتى لو عَرَّضه ذلك للسجن والنبذ ولكل ما يتعرَّض له الرواد الذين يسيرون عكس التيار.. ومن الكتب التي صدرت عنه كتاب بعنوان (يوسف إدريس والتابو) لفؤاد طلبة.. وكتاب لفاروق عبدالقادر بعنوان (البحث عن اليقين المراوغ: قراءة في قصص يوسف إدريس) أما محمود فوزي فقد حاوره حوارات متكررة واهتم بمعاركه الفكرية مع السادات ونجيب محفوظ وزكي بدر وأحمد شفيق وغيرهم ويستهله بقوله: (يوسف إدريس كان دائمًا على فوهة بركان فهو يتلمس الألغام الاجتماعية المحرمة ويتعمد تفجيرها ويتمتع بحيوية الرفض لكل مايحدُّ من حرية الإنسان.. أعصابه فوق جلده ويحمل في عروقه تيارًا كهربائيّا صاعقًا.. جذوره سياسية وأدبية واجتماعية فهو كالإعصار إذا هدأ هدَّده الموت) هكذا هو الإنسان كائنٌ تلقائي وهكذا هو الإبداع لايأتي إلا باهتمام تلقائي قوي مستغرق فالمبدع لايكون إلا إعصارًا يتفجَّر من داخله وليس وعاءً يتم حقنه من خارجه فقد توصَّل عالم الأعصاب انطونيو داماسيو إلى أن الانفعالات هي مصدر طاقة الإنسان ومهماز إرادته وليست المعرفة أو العقل وقد شرح ذلك بوضوح في كتابه (خطأ ديكارت) ثم في شكل أعمق وأوسع في كتابه (دور الجسد والعاطفة في صُنع الوعي). إن نشاط الإنسان مرهونٌ باتجاه ونوع ودرجة اهتماماته التلقائية القوية المستغرقة.. ومن الكتب المهمة التي صدرت عن إبداع يوسف إدريس الدراسة العميقة التي كتبها المبدع الناقد الدكتور عبدالرحمن أبو عوف الذي كان يرأس تحرير مجلة الرواية وهي مجلة متخصصة رفيعة المستوى أما كتابه فهو بعنوان (يوسف إدريس وعالمه) وقد وَصَفَ إدريس بأنه (الكاتب الفذ) وأنه (الفارس النبيل) ثم يقول: (يوسف إدريس عندما يتوهج يبدع إبداعًا فذًّا.. ويثير أكثر من مشكلة فنية وفكرية) ويقول: (إن ما استحدثه وأبدعه يوسف إدريس من عشرات بل مئات القصص القصيرة وبعض الروايات.. وما عمَّقه وفجَّره وأضافه لمفهوم الدراما المصرية والعربية جعل من إسهاماته مرحلة متألقة.. إنه كاتبٌ مطبوع في التهاب ونَهَم وتَوَقُّد وحدّة ذكاء ساطع وشهوة عارمة تتقصَّى جوانب الواقع الإنساني وما بعد أو وراء البُعْد الإنساني والنفسي وتلتقط في نفاذ ديمومته وتحولاته في تجاوز لآنية اللحظة) ومن المهم التأكيد على أوصاف التوهج والنهم والتوقد والتفجُّر التي يتكرر وصْف إدريس بها فلا إبداع إلا باندفاع تلقائي متأجج.. ويقول أبو عوف عن يوسف إدريس: (ملأ سماء حياتنا الأدبية والفكرية والفنية إبداعًا سامقًا له سموه وشموخه في القصة القصيرة والرواية والمسرح والمقالة.. والتحم بوجدان شعبه في شكل المقال القصصي المتوقد المتوهج والذي يعالج ويناقش ويثير مشكلاتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية في جرأة وشجاعة وتمرد) كما خصَّته مجلة الهلال بعدد من أعداد عام 1991 وقد شارك في الكتابة عنه في ذلك العدد نخبة من أميز النقاد منهم مصطفى نبيل وصلاح حافظ وأحمد عباس صالح وشكري محمد عياد ومختار الشيخ وإبراهيم فتحي ومحمد عناني والطاهر أحمد مكي ومحمد المنسي قنديل وحسين عيد.. أما إبراهيم عبدالعزيز فيقول في كتابه (رحلة في عقول مصرية): (الكتابة عند يوسف إدريس وسيلة للتعبير عن إحساسه العارم بالشعب وقضاياه وأحلامه بل وخرافاته) إن التوقد عند يوسف إدريس وغيره من المبدعين ليس اختيارًا وإنما هو اندفاعٌ تلقائي إن تلقائية الاندفاع هي منبع الإبداع في الفن والعلم والعمل والمغامرة والكشوف وفي كل مجال من مجالات الأداء. إن يوسف إدريس قد استخدم فَنَّه بتجلياته المتنوعة في التنوير والنقد الاجتماعي والتشريح الثقافي والسخرية السياسية لقد كان مهمومًا حتى درجة التوقد والاستغراق بمشاكل المجتمع المصري خصوصًا والعربي عمومًا: سياسةً وثقافةً وعلمًا وتعليمًا وأخلاقًا وأوضاعًا وتنميةً وكان مندفعًا إلى كشْف العطالة الثقافية وتعرية المعوقات الاجتماعية وإعلان السخط على الاستبداد السياسي والتهكم به والسخرية منه والمناداة بحرارة وإلحاح إلى كسر أقفال الانغلاق الثقافي المزمن وهدْم الأسوار النفسية الصلدة التي عزلتْ العرب عن حضارة العصر وحَرَمتهم من فُرص الازدهار. ومن المهم جدا أن ندرك بوضوح وتمييز أن الانغلاق الثقافي وتوهُّم الكمال واعتقاد التفرُّد ليس خاصّا بثقافة دون أخرى وإنما كل الثقافات هي أصلاً تكون غارقة بهذا الوهم حتى تنفتح بتأثير قوي من خارجها فلا شيء يفوق ذاته، ولا شيء يتغذى من ذاته ولا شيء يتغير نحو الأفضل إلا بتغذية كافية من خارجه غير أن الثقافات تختلف في شدة الرفض وقوة الحراسات واحتشاد المقاومة واستمرارها فنجد أن الثقافة اليابانية مثلاً هي أسرع الثقافات انفتاحًا وأسرعها قبولاً للفكر المغاير لذلك تقدمت في العصر الحديث قبل كل ثقافات الشرق بينما نجد أن الثقافة العربية هي الأعنف موقفًا والأدوَم رفْضًا للفكر الوافد فلا يتزحزح موقفها الرافض للمغاير وهذا الفارق هو الذي مكَّن اليابان من الدخول المبكر في حضارة العصر وجَعَلَها تزاحم وتنافس الغرب في المنجزات وتتقدم عليه في بعض المجالات وبالمقابل نحن العرب نعيد إنتاج تخلفنا إلى الدرجة التي انتهت بنا إلى تنظيمات القاعدة وطالبان وداعش وبوكوحرام وأخواتها التي هي من نتاج ومهازل الانغلاق الثقافي والاستبداد السياسي وتزاوُج هذا الثنائي المتحكِّم بالحياة والأحياء في البيئة العربية فلا بد أن يكون المولود الناتج عن تزاوجهما بهذا القُبح والبشاعة وشناعة الاتجاه وفظاعة النهاية... كان يوسف إدريس ككثير من الرواد يعتقد أن تفهُّم الناس لمقومات حضارة العصر سوف يجعلهم يبادرون للقبول والتغيُّر الإيجابي ولكنه بعد تجربته الإبداعية الصاخبة اكتشف ضآلة أو استحالة تأثير الإبداع في البيئة العربية.. إنها بيئة تتوهم الكمال تاريخيّا وتعتمد الاكتفاء بما ورثته وتعتقد واهمةً أن الحضارة العربية هي مصدر كل ما في الدنيا من ازدهار وتقدم وتَرْفُض أيَّ عنصر طارئ مغاير يضاف إلى ثقافتها فهي في نظر نفسها تعلِّم الآخرين ولا تتعلَّم من أحد رغم اعتمادها المطلق على منجزات الأمم الأخرى حتى في تحويل مخزون أرضها (النفط) إلى ثروة هائلة وفَّرتْ لها الرخاء الباذخ ولكن الثقافة المغلقة عمياء لاتُبصر حقائق الواقع مهما تضافرت ومهما كانت صارخة وكثيفة ونامية ومتدفقة.. إن الثقافة العربية بسبب أوهام الكمال واعتماد الاكتفاء قد التزمت منذ اصطدامها بالحضارة الغربية النامية بالرفض العنيد الصارم فظلت رافضةً بأن تنعتق من أسر الماضي وممتنعة أشد الامتناع عن تفهُّم معطيات العصر وتغيراته النوعية في الفكر والفعل وأسلوب الحياة وبذلك بقيتْ البيئة العربية وحدها دون العالم كله منغلقة عما يجيش به العصر من أفكار خلاقة وتفاعلات منتجة وإنجازات مدهشة فظلت تراوح مكانها بل تتراجع في شكل مخيف فباكستان وأفغانستان والصومال والسودان وبلدان عربية وإسلامية أخرى تراجعتْ تراجعًا مرعبًا ومخزيا وبلغ التراجع الشنيع ذروته في ظهور تنظيم القاعدة وداعش وبوكوحرام وأمثالها من التنظيمات النكوصية البربرية البشعة.. إن الانغلاق الثقافي والتحجُّر الفكري هما الوضع التلقائي الطبيعي لأية ثقافة ولأي مجتمع لم تتعرض مسلَّماته الخاطئة لهزات مزلزلة فليس الانغلاق ابتداءً من خصائص الثقافة العربية وإنما كل الثقافات في الأصل تكون منغلقة لكن تختلف الثقافات في قابلية الانفتاح والنمو فبعض الثقافات تستجيب للفكر الجيد الطارئ بعد ممانعة ولكن ثقافات أخرى كالثقافة العربية لايزيدها طَرْقُ الأفكار الخلاقة سوى مزيد من الانغلاق والمقاومة والرفض العنيف فمقاومة التغيير في البداية هو سلوكٌ تلقائي وأيضا فإن للانغلاق دعاته وحُرَّاسه الذين يدافعون عنه باندفاع شديد ويقين مطْلق بأنهم أهل الحق وبأن غيرهم في الضلال المبين.. إن دعاة الانغلاق وحُرَّاسه والمدافعين عنه لايجدون صعوبة في هذه الحراسة وفي هذا الدفاع وفي حشد وتجييش الاتباع والمؤيدين والمتعاطفين لأن احتشاد الأتباع انسيابٌ أو تدفُّقٌ تلقائي من السائد أما التنوير فهو مختلف نوعيّا، إنه مغاير للسائد في مضمونه واتجاهه ومساره ووسائله وأهدافه لذلك يبقى شديد الضعف قياسًا بقوة وصلابة ومقاومة الواقع بل يبقى منبوذًا وهامشيّا ومدانًا ومحاصرًا ولهذا فإن البيئة العربية ظلت بيئة متحجرة ثقافيّا وقامعة سياسيّا وليس صدام حسين والقذافي وبشار الأسد سوى التجسيد القريب لهذه الثقافة وبهذا الرفض العنيف المتوحش بقيت البيئة العربية تعاني من قحط شامل وهوان مذل ومع ذلك تُبدي انتفاشًا فارغًا وتتصرف بنرجسية متضخمة وهي نتيجة طبيعية تلقائية لأية ثقافة منغلقة ورافضة للإثراء المعرفي الطارئ المتجدد.. لقد كان التنويريون منذ عصر فولتير يظنون بأن الناس سوف يتقبلون التنوير بسهولة لأنه عظيم النفع وقابلٌ للامتحان والتحليل والتحقق.. إن هذا الظن مبنيٌّ على توهم عقلانية الإنسان ولكن الواقع أثبت أن الإنسان غير عقلاني وأن البرمجة التلقائية هي التي تتحكَّم به ولذلك فوجئ التنويريون بهذه النتيجة المرعبة لأنهم لم يدركوا أنها نتيجة طبيعية تلقائية ولكن بهذا الاكتشاف المرعب للحقيقة المُرَّة تبدَّد الحلم العظيم الذي كان يوسف إدريس يسعى إليه فأعلن بكل مرارة بأنْ لامكان ولا مكانة للمبدعين في البيئة العربية ولا أهمية ولا قيمة للإبداع فالمجتمع العربي يتوهم الكمال بتراثه ويعتمد على هذا التراث اعتمادًا كليا ويصرُّ على الاكتفاء به ويرفض ماعداه ولا يفطن بأنه يعتمد على منجزات الأمم الأخرى في التقنيات والوسائل والعلوم وأدوات الرفاه وأسباب الرخاء وكذلك في العلوم وكل ماتتطلبه الحياة المعاصرة ولكن البيئة العربية تبقى في عمى مطبق عن كل ذلك فالمجتمع العربي بكل عجزه وكلاله وضحالة محتوى ذهنه وجدب وجدانه وشدة احتياجه إلى إنجازات غيره يبقى غير مهتم إيجابيا بالإبداع ولا بالفكر ولا بالتنوير فقد انحصر اهتمامه بالرفض والمقاومة والتشويه إلى درجة أن يوسف إدريس يرى أنه لو اختفتْ كل الكتب غير التراثية والصحف والمجلات وكل مصادر الفكر الخلاق والمعرفة المتجددة، ولو غاب كل المبدعين واختفتْ كل تجليات الإبداع ولو انقطعت كل الروافد الثقافية الآتية من الآخر فإن أكثر الناس في المجتمع العربي لن يشعروا بأية خسارة بل ربما لن يُحسوا بهذا الاختفاء ولن يدركوا هذا الغياب ولن يشعروا بهذا الانقطاع إلا إذا كان إحساس الفرح والابتهاج بهذا الانقطاع فالقحط الثقافي والانغلاق الفكري والعطالة الذهنية والجدب الوجداني وأوهام الكمال ودعاوى الاكتفاء لاتتمخَّض إلا عن اهتمامات تكرس التخلف وتُعَمِّق الانفصال عن العالم الذي يمور بالتنوع والفاعلية والانطلاق في كل الآفاق والإبداع في جميع المجالات.. ومثل كل الرواد والمبدعين الذي يسيرون ضد التيار السائد الجارف ظل يوسف إدريس شديد الاحساس بتفرُّده وعزلته وانفراده.. لقد كان يشعر شعورًا حادّا بأنه غير مسموع في هذه البيئة الصماء وبأن نداءاته للحرية وصيحاته للانفتاح تتبدَّد في الفضاء وبقي هذا الاحساس ملازمًا له حتى آخر يوم من حياته فكان كتابه (عزفٌ منفرد) من آخر ما صَدَر من كتبه، إنها نتيجة طبيعية فهو يُقدِّم أفكارًا مغايرهً للسائد ويستخدم فنًّا حديثًا طارئًا ليس من معطيات البيئة أو التراث وإنما جاء كدفق ثقافي جديد فلا بد أن يكون نصيبه خارج دائرة المبدعين والمثقفين هو الإهمال والتجاهل أو الرفض العنيف الصادم أو المحاكمة المذلَّة والتشويه المتَعَمَّد.. إن الفن المسرحي والإبداع الروائي والقصصي والفن التشكيلي وفن النحت وغيرها من فنون التعبير الحديثة لم تكن ضمن موروثنا الثقافي العربي وإنما هي عناصر جديدة وافدة على بيئتنا وبسبب ذلك لا يحظى المبدع خارج دائرة المبدعين والمثقفين بالمكانة التي يستحقها ولا الاحتفاء الذي يليق به بعكس الشاعر الذي اعتاد العرب على تمجيده والاعتراف بتفرُّده لأن الشعر عنصرٌ أصيل وأساسي في الثقافة الموروثة ويجب أن لاننخدع بأحاديث وكتابات المهتمين بالشأن الإبداعي فنظن أنه اهتمامٌ عام فاهتمامات المبدعين والمثقفين بعضهم ببعض هي اهتمامات فردية محصورة ضمن دائرة شديدة الضيق مهما بلغت من الصخب والعمق والتنوع داخل دائرتها الضيقة فهي ليست ضمن الاهتمامات العامة السائدة إن اهتمام البيئة بالمبدعين والمفكرين والمثقفين التنويريين لايأتي إلا من أجل الرفض والشجب والتعنيف والمقاومة والتحذير وربما التكفير ومحاولة الاستئصال فكريّا وجسديا.. إن الرواد والمبدعين والمثقفين في البيئة العربية فئةٌ مضيئة لكنها صغيرة ومعزولة وسط محيط هائل يقاوم التغيير بشراسة ووحشية ويحارب التنوير باحتشاد شديد وعنف كاسح فالمثقفون فئةٌ لايعرفها سوى نفسها ولايهتم بها إلا ذاتها، وإذا جاء الاهتمام بها من خارجها فإنه يأتي بقصد إسكاتها وإيقاف نشاطها والتخويف من تأثيرها وتشويه سمعتها وتحذير الناس منها والتداعي إلى استئصالها.. لذلك بقي تأثير يوسف إدريس وغيره من التنويريين تأثيرًا محدودًا أو معدومًا أو ربما عكسيّا لأن ظهور التنوير يثير المقاومة ويستحدث ردود فعل تنتهي إلى إقامة الكثير من حصون التخلف وقلاع الانغلاق ومتاريس الرفض وأسوار العزل فلا قيمة للإبداع والافكار الإبداعية إلا بمقدار مايستجاب لها إيجابيا فتأثير الريادة مشروط بالاستجابة العامة وهي في البيئة العربية استجابة التجاهل والاستخفاف أو الرفض والمحاربة أكثر مما هي استجابة إيجابية مثمرة..

مشاركة :