جرّب المتنبي مرايا كثيرة بمثل ما جرّب من أماكن، ومن شخصيات اختار الوقوف أمامها كاشفاً لعقله ولوجدانه، وهو عقل شجاع في وجدان خائف، ولذا تقلبت به الظروف والصروف ما بين طموحات تتحول لمطامع، وشجاعات تتحول لكوارث، فقد طرده سيف الدولة، بعد عشرة عظيمة، ولاحقه كافور وتنكرت له دياره العراق، ثم انفصلت عنه روحه في خراسان، حيث وصف حاله هناك بأنه (غريب الوجه واليد واللسان)، ولكنه ظل ملتبساً بمرآة واحدة ولقد صنع المتنبي مرآته ورسمها في كلمات ومنها قوله: أهمّ بشيءٍ والليالي كأنها تطاردني عن كونه، وأُطاردُ وحيدٌ من الخلان في كل بلدةٍ إذا عظُم المطلوب قل المساعدُ وَلَكِن إِذا لَم يَحمِلِ القَلبُ كَفَّهُ عَلى حالَةٍ لَم يَحمِلِ الكَفَّ ساعِدُ خَليلَيَّ إِنّي لا أَرى غَيرَ شاعِرٍ فَلِم مِنهُمُ الدَعوى وَمِنّي القَصائِدُ والبيت الأخير يكشف داء المتنبي ومرضه الاجتماعي، حيث لا يجعل ذاته متفردة فحسب، بل متعالية أيضاً، فكلهم مزيفون، ولا يرى منهم غير الدعوى، بينما هو وحده الحقيقة الشعرية والمعنوية، لهذا هو وحيد بمعنى الأوحد، ووحدها الليالي تطارده، وتطارد الشيء الذي يريد أن يكوّنه وهو شيء لا يظهر إلا في مرآته هو وحده. على أن المرايا صنعها البشر لا ليروا وجوههم الطبيعية فيها، وإنما ليروا الوجوه التي يريدون أن يكونوها، أو التي يريدون أن يظهروها للناس، وفي المقابل، فإنهم يسعون لإخفاء وجوههم الحقيقية تلك التي تخاف وترغب، وما بين الخوف والرغبة يعيش البشر سعادة ً وشقاءً، وكل يسعى للتعامل مع رهبته ومع رغبته ويضبط علاقاته العامة تبعاً لهاتين الحالتين، والمتنبي ليس بدعاً في البشر غير أنه اختار الشعرية والمجاز الشعري لكي يصنع مراياه الخاصة، وهي المرايا التي تحولت مع الزمن إلى ذاكرة تستعديها ذواكر البشر عبر حفظهم نصوص أبي الطيب، ومن ثم الاستشهاد بهذه النصوص، لتدوم مقولات المتنبي، ولتكون أقنعةً مستعارةً يستخدمها الناس لتتولى التعبير عنهم. كاتب ومفكر سعودي أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض
مشاركة :