موسيقى الصمت (1) | ثقافة

  • 6/13/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

«الكليات بينة، وما نحاوله هو الوصول إلى التفاصيل، الأنغام تسبقنا، وما نسمعه مجرد كشف».. اختفى ذلك منذ زمن طويل، تغير المكان كله، كذلك واجهة المتجر، حتى ليصعب عليّ الآن تحديد مكانه بالضبط عندما أعود إلى شارع الموسكي، أعني الجزء الواقع بين شارع الخليج بورسعيد، فيما بعد وميدان العتبة. ذلك أن الشارع يصعد باتجاه الشرق حتى ميدان الحسين. أمشي طفلا بصحبة الوالد، أمشي صبيا برفقة حسن زميل الدراسة، أمشي فتى بمفردي، إذا كنت قادما من الحسين يكون المتجر إلى يساري، إذا كنت عائدا من ميدان العتبة إلى البيت في قصر الشوق يصير إلى يميني. معرض اسطوانات بيضافون، يتقدم الواجهة تمثال من خشب ملون لمحمد عبدالوهاب مرتديا حلة بيضاء وطربوشا، يبتسم في اتجاه ما، يضع يده في جيبه، إلى جواره نجاة علي. تماما كما ظهرا في إحدى لقطات فيلم دموع الحب، يمت المشهد إلى زمن مضى، يبدو متخلفا عن أيام لم تعد قائمة، محمد عبدالوهاب الذي يطالعني يمت إلى ثلاثينيات القرن الماضي، تغيرت ملامحه فيما تلى ذلك، كذلك صوته، تندلع هذه العبارة: اسطوانات بيضافون. ثوان من الصمت. محمد أفندي عبدالوهاب. تبدأ المقدمة الموسيقية تمهيدا لدخول الصوت الذي صار من علامات عمري، تماما كلافتات المحطات التي تحمل أسماءها، أو علامات الطريق، أو الإشارات الدالة على ما تبقى من مسافة، وما انقضى منها. حتى خربشة الاسطوانة العتيقة وصرير الأبوة عبر المنحنيات والملفات والثغرات الدقيقة غير المرئية، الصوت المنبعث عند الوصلات، الله... الله ياسي محمد أفندي عبدالوهاب. أو يذكر اسم عازف الكمان، أو القانون، أو العود، صوت بقي كجزء من النص رغم أنه مهمل، متروك، لا يتوقف أمامه أحد، لا يتأمله أحد، لا يتفحصه أحد، لم تحتفظ صورة بملامحه، ولم يصل إلينا اسم أحدهم، وإذا ذكر أمثاله. فبالوصف الذي يتضمن نقيصة ما، مرتبة منخفضة، أقل، إنه المطيباتي، لفظ لا يعبر سمعي بسرعة، إنما أطوف به، أقلبه، أحار في إيقاعه، فهو مشتق من الطيب والطيبة، أي الدقة والتدقيق والخصال الحميدة، كلمة «طيب» في المصرية الدارجة تعني الكثير، ومنها يقول القوم «دا بيطيب خاطره» أو «يجبر خاطره»، أي يثني عليه، يمدحه، يشيد بخلاصه، بعمل أتاه، المفروض أن يتم هذا تلقائيا، بدافع داخلي، لكن عندما يجيء ذلك مقابل أجر تنقص القيمة وتبتذل الدلالة، يوصف الفاعل بالمطيباتي، لا أعرف هل هو نفس الشخص الذي يقوم أم إنه مختلف، لكن كليهما جزء مما أسمعه، يضعان النص في إطار، يحتفظان بسمات الزمن الذي أبدع فيه اللحن، وجري الغناء. بعد الغروب تغلق المتاجر أبوابها، يختفي المارة وينتهي الزحام، لا تبقى إلا أكياس فارغة، وسلال، واجهات صامتة، الأضواء تعلو المداخل، في العتمة ينشط اللصوص، الشارع غزير التجارة.

مشاركة :