أماكن / موسيقى الصمت (2) | ثقافة

  • 6/19/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

... أعود من ميدان العتبة متمهلا، أتمهل عند اقترابي من معرض بيضافون، أتوقف أمام التمثالين المنحوتين من الخشب، نفس الوضع، اتجاه النظرة، الاسطوانات المعروضة، فوتوغراف قديم ربما عينة لما كان الحال عليه، ليس للبيع، أجهزة استماع أخرى حول التمثالين، أطيل التأمل، أستعيد زمن طفولتي. كنت أتعلق بهما عبر بصري، أبطئ خطوي، متخيلا الحوار الذي يجري بينهما بعد انصراف الخلق كلهم من الطريق، غير أن الطريق لم يخل قط، باستمرار ثمة مارة، حتى في الليل وإن تباعدت بينهم المسافات، طالت وقفتهما، وتطلعهما إلى نفس الاتجاه، منهما ينبعث الغناء، الموسيقى، لم أسمع محمد عبدالوهاب إلا وتلوح الواجهة بشكل ما، إما عابرا أو تستمر لفترة، في نهاية الستينيات، ربما في منتصفها تغير مضمون المعرض، صار إلى الأقمشة ولوازم العرايس. أغلقت شركة بيضافون، اختفت، لسبب ما احتفظ صاحب المتجر الجديد بالتمثالين، لا أعرف لماذا؟ بدا منظرهما غريبا وهما يقفان وسط أثواب القماش من حرير وقطن، عند مروري بهما أتطلع بسرعة متمنيا ألا أراهما، ثمة خطأ ما، كان لابد أن يختفيا مع الاسطوانات، والفونوغراف القديم، بقي رسمه على شركة أجنبية، وعندما ظهرت الاسطوانات الممغنطة اقتنيت عددا منها، تأملت الكلب الناظر إلى داخل فوهة الفونوغراف القديم، استمرت الشركة التي لا أعرف مقرها أو منشأها، أما اسطوانات بيضافون فأصبحت من التحف، ومع تقدم تقنيات الاستماع صارت عبئا في حالات كثيرة، غير أنني لم أتخلص مما جمعته رغم أنه يشغل حيزا غير هين من مكتبتي، لكل مجموعة تاريخ في تطور صلتي بالموسيقى وتداخلي مع أجناسها، غير أن أنفس ما فيها ثلاث اسطوانات، اثنتان لمحمد عبدالوهاب والثالثة للمطربة نجاة علي، التمثال يكمن فيها، تماما مثل صوت محمد عبدالوهاب وموسيقاه، لم يستمر بقاء التمثالين طويلا، أزيلا، لا أعرف السبب، رتبت أمورا افتراضية، ربما آثر المالك الجديد الاحتفاظ بهما، غير أن أبناءه بدلوا الحال بضغط منهم، ربما لرحيله، لماذا لم أدخل وأستفسر منهم أو منه؟، ربما لأن اختفاء التمثالين يعني انقضاء حقبة ونهاية حالة، زوالها من الواقع. لم أقدم وكان ذلك ميسورا لي، فقط.. السؤال، أحيانا أفضل إبقاء موضوع اهتمامي في نطاق المجهول، يثير عندي الاحتمال تداعيات شتى، لا تحدني معلومة مؤكدة أو افتراضية، لو عرفت الجواب سينتهي كل شيء، لن يظل حافزا، ولن أصير إلى تطلع، ربما يفسر ذلك بقاؤها عندي وتأثيرها الخبئ. فجأة يبرزان أمامي أثناء قطعي المسافات، في الفيافي، عند التخوم، حيث لا أتوقع في الجو أو عمق البحر، أفاجأ بهما، بطلتهما، غير محددين بواجهة المتجر، يتطلعان من عندي، يقفان في مجالي، يتحركان بمحاذاتي، مجرد لواحهما، يتبدل حالي لظهورهما، ربما يبعثان أشجانا قديمة، تركا عندي آثارا وعلامات لم يحدثها بعض ممن عاشرتهم زمنا، وأناث ولجتهن وبلغت معهن مراسي الذروة، كاد مصيري يتحد بمصائرهن، بعضهن غاب عني تماما، حتى إنني أجتهد في استعادة أسماء عزيزة، قريبة فأعجز، غياب الاسم يعني المحو الأتم، فليراجع من يرغب دفتري المعنون بالدن، فقد فصلت فيه الأمر وكدت أبلغ الدراية، وأفهم الغاية، لكنني لا أعرف حتى الآن، هل بلغت أم قصرت؟ أصغي إلى الاسطوانات، إلى التسجيلات العتيقة، ما يشجعني ردود فعل المستمعين إذا كان الغناء في حفلة ما، أو هتاف المطيباتي الذي يبزغ فجأة، «الله الله ياسي عبده يا صالح».. المطرب معروف، لكن من سيلم باسم هذا العازف أو ذاك؟، يرجفني الاستثناء وليس الأصل، يزلزلني الهامش وليس المتن، غريب أمري! على أي حال صارت طلة عبدالوهاب ونظرة نجاة علي من اللوامح النائية جدا، لم أعد حتى أمشي في الموسكي، إذ تبدل حاله بدءا من السبعينيات وبعد أن استمر زمنا كمصدر للأناقة صار مركزا للرثاثة والفوضى. تزاحم الباعة، تدهور المعروض، صار المشي فيه عبئا بعد أن كان متعتي عندما أقصد سور الأزبكية أو وسط البلد افرنجي النظام، صرت أسلك الجسر العلوي عند اتجاهي إلى ميدان الحسين، عند دخولي خان الخليلي أتوقف متطلعا إلى شارع جوهر القائد، ينحدر باتجاه العتبة، تتجاور رؤوس المارة، كثافة منفرة، لو أنهما بقيا في الواجهة لاتسخا، لاختنقا، لتكررت ملامح محمد عبدالوهاب ونجاة علي. لم يعد لهما موضع الآن مع تدهور الحال وغلبة الرثاثة، كم ذاكرة لاتزال تتوقف عندهما أو تستدعيهما من العدم؟ من بوسعه معرفة ذلك؟. كانا جزءا من وقت زوي بكل ما فيه من أحوال ومشاهد، من مثولهما أتلمس أزمنتي البائدة، من حضورهما الفاني أتلقى رجفات الحنين إلى ما ولى، إلى ما انطوى إلى الأبد، وليس أغرب من وضعي هذا إلا حالي مع ذلك الصندوق العجيب!

مشاركة :