التاريخ الجديد يكتبه المنتصرون من أزمة كورونا

  • 4/2/2020
  • 00:00
  • 22
  • 0
  • 0
news-picture

سمعت وشاهدت وقرأت الكثير من النظريات والسيناريوهات عن فيروس كورونا ونشأته وأسبابه، بعضها يطرح أسئلة ويبحث عن إجابات علمية، وأخرى تأخذها وتُسيطر عليها الخرافات والخزعبلات. ما بين من يقول إن كورونا تطور جيني لا علاقة له بالتدخلات البشرية الخبيثة، تكثر وتتزاحم نظرية المؤامرة التي تُرجع كل ما حدث ويحدث إلى حرب بيولوجية بين الدول الكبرى، أو لعبة اقتصادية من اختراع شركات الأدوية، وقد ينتهي الأمر بأصوات تعتبر كل ما حدث عقوبة إلهية. آخر النظريات التي علقت في ذاكرتي وأقلقتني أن فيروس كورونا من "ثمار" تقنية الجيل الخامس للاتصالات، وأن آخر جائحة وبائية قبل قرن من الزمان كانت بفعل اختراع موجات الراديو العابرة للحدود. هذه السيناريوهات الجامحة الخيال لم تغب عن هوليوود؛ فقبل عقد من الزمان قدم المخرج الأميركي ستيفن سودربيرغ في فيلمه "العدوى" عن فيروس يجتاح الصين، ويُفني مدنا بأكملها. كل هذه الهلوسات والتنظير والجدل لا تهم معظم الناس المُنشغلين في الهرب من موت محتوم، وما يُسيطر على تفكيرهم طريقة الخلاص والنجاة. صافرات الإنذار تسمع في العواصم مُعلنة عن عالم جديد قيد التشكل أسئلة المستقبل رغم أهميتها مؤجلة، فهزيمة فيروس كورونا هي الحرب التي تخوضها المجتمعات، والقلق الأكبر كيف تنصب الجهود لحماية الدول من الانهيار، فهذا "العدو" القادم نحوهم يقهر الجغرافيا، ولا تصمد أمامه الحدود، وحتى الحلول المُتاحة بالعزلة والاختباء خلف الجدران قد لا تنجح. "مئة عام من العزلة" ليس عنوانا سرياليا في ظل هذه الجائحة التراجيدية التي يعيشها العالم، فقلاع العولمة التي شُيدت تنهار، والناس تتقوقع، والدولة الوطنية التي كان هناك من ينعيها تعود كخيار للبقاء والحياة. فيروس كورونا يجتاح العالم بسرعة، وحين بدأ في الصين كانت الكثير من دول العالم مُسترخية ومُطمئنة على أنها بعيدة عن شره، وما هي إلا أيام حتى تهاوت أحجار الشطرنج، وصارت "الإمبراطوريات" تتصدع جدرانها وتستغيث. ما هي مآلات الحاضر والمستقبل؟ هل أصبح السلم المجتمعي مُهدد بعد أن اقتربت دول كبرى من الفشل في احتواء الوباء، والناس قد تخرج إلى الشوارع لتعم الفوضى؟ وما هي الخيارات المُتاحة حتى الآن لبناء شبكة أمان تصون كرامة الناس، وخاصة الفقراء والفئات المُستضعفة، والأكثر عرضة للخطر؟فيروس كورونا وانهيار أميركايبشّر كثيرون حول العالم بحتمية انهيار الجمهورية الأميركية تحت وطأة انتشار فيروس كورونا. هي ليست المرة الأولى التي يأمل فيها هؤلاء، بل يتوقعون على وجه التأكيد، الانهيار الأميركي حالة الهلع والخوف التي تعم العالم بسبب فيروس كورونا لا يفهمها بعض خبراء الصحة الذين يرصدون ويتابعون الأمراض التي تفتك بالبشر، هؤلاء يذكّرون بحقائق ماثلة أمامنا كل يوم، فالتدخين يودي بحياة 6 ملايين شخص سنويا، وفق إحصائيات منظمة الصحة العالمية، وذات الأمر 3 ملايين توفوا بسبب الإفراط بشرب الكحول عام 2016، و770 ألف حالة وفاة ناتجة عن مرض الإيدز عام 2018، وفق أرقام برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز. الأصوات التي تُهدئ من روع العالم، وتُطالبه برباطة الجأش والثبات، والتوقف عن الهلع؛ لا تجد من يُصغي لها، والدول تُغلق حدودها، والناس يختبئون خلف جدران بيوتهم، وصافرات الإنذار والطوارئ تُسمع في العواصم مُعلنة عن عالم جديد قيد التشكُل. العالم سيُصبح أقل انفتاحا وأقل نموا وأقل حرية مجلة "فورين بوليسي" طرحت سؤالا عن الوضع الذي سيؤول له العالم بعد القضاء على جائحة كورونا؟ أستاذ العلاقات الدولية بجامعة "هارفرد" ستيفن والت لخص المشهد بالقول "العالم سيُصبح أقل انفتاحا، وأقل نموا، وأقل حرية"، في حين أن مدير مركز "تشاتام هاوس" للأبحاث في لندن روبن نيبليت اعتبر أن فيروس كورونا "القشة التي قصمت ظهر العولمة الاقتصادية". مُجمل إجابات الخبراء لمستقبل العالم والاقتصاد يسود عليها طابع التشاؤم، وتتلخص بتوجه الحكومات لتبني إجراءات وتدابير طارئة، وتزايد الصراع الأيديولوجي والدولي، وتقويض كبير للصناعات العالمية، وتدخل الدول للسيطرة على الصناعات الاستراتيجية، وتراجع الترابط العالمي. يُفهم مما تقوله "فورين بوليسي" أن التاريخ الجديد يكتبه المنتصرون من أزمة كورونا؛ فالأنظمة التي ستصمد سياسيا، واقتصاديا، وصحيا ستفرض إرادتها ووجودها، وتضع أقدامها على الطاولة. جائحة كورونا علامة فارقة في التاريخ، ستترك أثرها وتداعياتها مثلما فعل سقوط جدار برلين، واجتياح "البيروسترويكا" الاتحاد السوفياتي، وكانت مسمارا أخيرا في نعشها.كيف ساهمت الطقوس الدينية في نشر فيروس كورونا؟رغم التحذيرات المتكررة من خطر التجمعات، ورغم قرارات غلق مقار العبادة سواء كنائس أو مساجد في بلدان كثيرة، إلا أن البعض يصر على التحايل عليها وتحديها يعصف فيروس كورونا بالدول، ويتحدى إرادتها السياسية، وها هو الاتحاد الأوروبي أول الضحايا المُحتملين لهذا الفيروس؛ فالدول الأوروبية لم تهب لنجدة إيطاليا التي تئن من الألم، وكذا الأمر في إسبانيا والعديد من البلدان، وحين وصلت المساعدات الطبية الصينية والروسية إلى صربيا وإيطاليا؛ نُسب للرئيس الصربي قوله "لقد رأينا، لا يوجد تضامن، ولا تكاتف في أوروبا، أثق أن الصين هي الدولة التي يُمكن أن تُساعدنا". الظرف الصعب الذي تمر به إيطاليا دفع بعض الإيطاليين إلى نزع علم الاتحاد الأوروبي، ووضع علم الصين؛ ولهذا دعت وزير الدولة الفرنسية للشؤون الأوروبية أميلي دي مونشالان الصين وروسيا إلى عدم استخدام المُساعدة الطبية كأداة لغايات دعائية، محذرة من تأثيرات سلبية مُحتملة لأزمة كورونا على العلاقات الأوروبية إذا لم يخرج الاتحاد الأوروبي مُتحدا، وهو ما كرره رئيس المفوضية الأوروبية الأسبق جاك ديلور حين قال "انعدام التضامن خطر مُميت على الاتحاد الأوروبي". الخطر الذي يُشكله فيروس كورونا ليس بالضحايا الذين سنودعهم كما قال رئيس الوزراء البريطاني، وإنما أيضا بالفوضى التي تُهدد العالم، والركود و"الموت" الاقتصادي الذي يُخيم في أنحاء المعمورة. انعدام التضامن خطر مميت على الاتحاد الأوروبي في دراسة تحليلية لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد" تتنبأ بانخفاض نسبة النمو الاقتصادي العالمي إلى ما دون 2.5 بالمئة، وهو السيناريو الأسوأ، وتُقدر العجز في الدخل العالمي بقيمة تريلييون دولار، ويرى أكبر البنوك الأميركية "جولدمان ساكس" أن قيودا مالية ستُفرض على النشاط الاقتصادي لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية. السجال حول المستقبل الاقتصادي، وتهاوي أسعار النفط لم يهدأ، والتجاذبات السياسية ألقت ظلالها أيضا، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب يدعو لاستئناف الأعمال من أجل الاقتصاد، قبل أن يتراجع، فيرد عليه حاكم ولاية نيويورك بقوله "لا يجوز المُقايضة بين الاقتصاد والأرواح". في هذه الأزمة التي تُهدد العولمة، تتغير الدول، وتتبدل الشعارات، ويخبو بعضها، وبدل التباهي بشعار التجارة الحرة؛ ترتفع وتطغى الشعارات الأخلاقية التي تُنادي بـ "تجارة عادلة". فيروس كورونا يضرب الدول الفقيرة والغنية، والأخبار الواردة من وكالة رويترز تُفيد أن صناديق الثروة السيادية الخليجية قد تشهد انخفاضات في أصولها يبلغ نحو 300 مليار دولار، وأن صناديق الدول المُنتجة للنفط تتجه للتخلص من أسهم بقيمة 225 مليار دولار، وهنا يصدق قول بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت "العزلة الذاتية ستكون كارثة للاقتصاد". أزمة فيروس كورونا أثبتت أن أعظم إمبراطوريات العالم المُعاصر هشة، ولم تصمد في مواجهة "غزو وبائي"، وليس هجوما نوويا، وأن ترساناتها من الأسلحة لم تنفعها، وأن معدي حروب النجوم والفضاء عاجزون، وأن استراتيجية العزلة قد لا تحمي قلاعهم بالصمود.

مشاركة :