النفوس القاحلة - علي حسن الشاطر

  • 6/22/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

الأرض ليست وحدها فقط التي تصاب بالجدب، فهناك نفوس بشرية قاحلة وجدباء لا تستطيع استيعاب روعة الحياة والخوض في غمارها والتفاعل معها من أجل العطاء والإبداع، وفرض وجود الذات الحضارية الخلاقة، وهؤلاء هم المصابون بأمراض هم صانعوها بأيديهم، يتحولون إلى كيانات قاحلة، ويحملون عقولاً متصحرة خالية من كل إمكانات التفكير السليم، ولا يمكن تشبيهها بالبالونات، لأن البالونات على الأقل تكون مملوءة بثاني أكسيد الكربون الذي يستفاد منه في بعض جوانب الحياة. والنفوس القاحلة والعقول المتحجرة شأنها شأن الأرض القاحلة دائماً مليئة بالأحجار والرواسب المؤذية، ومع ذلك يمكن الاستفادة من الأرض القاحلة بتحويلها إلى أرض خصبة ومعطاءة إذا أحسن استخدام الوسائل المساعدة في استصلاحها وزرعها أو تعميرها وتزويدها بما يساعد على العيش فيها والاستفادة منها، أما النفس البشرية القاحلة المتحجرة فيصعب تحويلها إلى نفس صافية تفيض بالمشاعر الصادقة، ليس لأنها كذلك فقط، بل لأنها مشحونة بأحجار الشؤم والكراهية والحقد والانتقام من الآخرين، تتسلط عليها النظرة السوداوية لما حولها ولما تعتمل به الحياة البشرية من مباهج وإيجابيات وأحزان وإنكسارات هي في الغالب من صنع النفس البشرية، لأن تلك النفوس القاحلة تشعر دائماً بأنها تنتمي لواقع آخر يسيطر عليه الظلام الدامس الذي لا فجر بعده، والكوابيس المليئة بالسوداوية والإنكار الجازم بعدم إمكانية تجاوز ذلك الواقع أو انبلاج فجر الأمل الذي يمكن من خلاله أن يكون الواقع مزدهراً ومليئاً بالخير والسعادة، والعمل والبناء، المتجرد من الأنانيات وحب الذات، ومن نزعة التسلط والاستحواذ، لكن ما الذي يجعل النفس القاحلة خصبة مفعمة بالحب والتسامح والقبول بالآخر، وقادرة على العطاء مستبشرة بالخير وقادرة على زرع بذور الأمل الذي يثمر خيراً وسعادة لحامل النفس خاصة وللبشرية جمعاء..؟ الذي يجعل النفس أكثر إشراقاً، وأوسع أفقاً، وأعمق أملاً وتفاؤلاً، هو الإيمان بالقيم العظيمة، والمبادئ السامية والإيمان بالعقيدة، والإيمان بحقوق الناس وبإرادتهم، وبحقهم في أن يعيشوا بكرامة وعزة وأمن وأمان، والإيمان بالقضايا الوطنية العادلة، والإيمان الراسخ بأن يكون الوطن فوق كل الأهواء والنزعات، وأن تكون مصالحه فوق كل المصالح الشخصية والذاتية، وبأن يكون مصاناً لا تتنازعه قوى التسلط والهيمنة مهما بلغ حجم نفوذها وقدرتها، والإيمان بحتمية توفر القناعة الراسخة لدى الجميع بأن الوطن مقدس لا يقبل المساومة والابتزاز والمتاجرة به في أسواق النخاسة -وما أكثرها الآن- أو تعريض أمن الوطن وسلامته للخطر وللهدم والتخريب من أجل قضية زائفة أو ادعاء حق التفرد به والسيطرة على مقدراته دون الآخرين، والإيمان الذي لا يساوره الشك بأن يكون للوطن دولة مدنية حديثة.. تقوم على أساس دستور يجسد تطلعات المواطنين ويتفق عليه الجميع، وتقوم أيضاً على مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والحكم الرشيد، وهي الدولة التي يجب أن تبسط نفوذها في كل أرجاء الوطن، وتوفر الأمن والأمان لكل أبنائها، وتدافع عنهم، وعن حقوقهم وتحافظ على أعراضهم وممتلكاتهم، وتؤمن حاضرهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وتحقق العدالة للجميع، وتضع حداً حاسماً وحازماً لأولئك الذين استثمروا غياب الدولة أو استغلوا ضعف أدائها في بعض المراحل، وجعلوا مصالحهم الشخصية تطغى على مصالح الوطن والجماهير. إن النفوس العامرة بالإيمان وبالمبادئ العظيمة والقيم السامية هي في مقياس اليوم النفوس التي تؤمن بالتطور وترفض الانسداد، أما تلك النفوس القاحلة فهي النفوس التي ارتضت طريق الوقوف أمام إرادة الخير والعمل، وتكره كل ما يحقق للوطن الأمن والاستقرار، ويحافظ على وحدته الوطنية، ويقف عائقاً أمام كل خطوات النهوض والتقدم، وهي نفوس ارتضت الطريق المعادي لطموحات الشعب، لأنها نفوس مريضة منغلقة في ظلامها العميق، ومع ذلك ليست عصية على العلاج إذا تجرد أصحابها من أنانيتهم ونظرتهم السوداوية، وفاقت من سباتها لتنتفض على الداء الذي يسيطر عليها بالتهام الدواء الناجع والناجح المتمثل في استلهام القيم السامية والمبادئ العظيمة التي يناضل كل إنسان حر من أجل تجسيدها في واقع الحياة وفي مقدمتها قيم الخير والمحبة والتسامح والتعاضد وحشد كل الطاقات لبناء وطن يستوعب الجميع ولا يرفض أحداً من أبنائه.

مشاركة :