تختلط المشاعر والمواقف لتضجّ وسائل الإعلام المختلفة بآراء كثير من الكتاب والمحللين من مختلف المشارب الفكرية والعقائدية والجميع منهم ينبذ التطرف والإرهاب، وعندما نتحدث عن التطرف والإرهاب أصبح من السهل على البعض أن يشير ببنانه الحاد متوجهاً بالاتهام للإسلام والدول العربية المعتنقة له. هناك مقولة تقول أن الإرهاب والتطرف لا ملة لهما، وهذا الكلام صحيح، إلا أن الكثير ممن يرفعون عن أنفسهم صفة التطرف اليوم يتهمون الآخرين بخطاب يفتقر البحث والمناقشة التحليلية، ويفتقرون للموضوعية والحياد، وأقرب للعاطفة والاصطفاف، يذهبون بآرائهم المجتزئة لسياق النصوص والتاريخ إلى أن مصدر الإرهاب والتطرف هم المسلمين الذين يستمدونهما من النصوص الدينية للإسلام، وهذا الكلام يعد الأخطر عندما يقال بأن المشكلة ليست في تفسير هذه النصوص أو بأن الخطأ في الممارسات، بل أن المشكلة تكمن في النصوص القرآنية نفسها. وحيث أننا لسنا بمفسرين للقرآن ولن نذهب للبحث عن تفسيرات المفسرين، سنتخذ طريق العبرة التي تكمن في النتائج وحقائق التاريخ، فنمضي بإشارتنا لكتاب أمين معلوف «الهويات القاتلة» وهو واحد من أهم الكتب التي في رأينا يجب أن يطلع عليها القراء، لما يتضمنه من خلاصات أمين معلوف الفكرية بتحولاتها، فأمين معلوف هو اليوم فرنسي الجنسية لبناني الجذور، من أسرة مسيحية مارونية، يمتلك تجربة فكرية طويلة وغنية، عندما تطلع على أنتاج أمين معلوف الفكري تدرك مدى تجرده من انتماءاته الفكرية والعقائدية والسياسية، فالرجل بالرغم من انتقاله للعيش في الغرب عوضاً عن الشرق الذي كان ينتمي له وتنتمي له أسرته وأسلافه، ألا أنه تخلص وإلى حد كبير من الاصطفافات الفكرية والعقائدية، ربما تتلمس تلك الصفاة عند قراءة رواية «بدايات» أو رواية «سمرقند» إلا أن كتاب «الهويات القاتلة» أتى كما يبدو كخلاصة لتجربته الفكرية، وقدم نفسه من خلال هذا العمل بالذات في أعلى مراتب الموضوعية والتجرد، بالرغم من ماركسيته التي بدأ مرحلة تحولاته بها، واليوم لا أعتقد أن ثمة أحد منا يزايد على علمانيته أو ليبراليته وهو أحد أعضاء الأكاديمية الفرنسية المسئولة عن حفظ اللغة الفرنسية والثقافة الفرانكفونية. عندما تجرك المواقف في كثير من الأحيان للنقاش مع أشخاص يعتقدون أنهم بمجرد أن يقدموا أنفسهم كعلمانيين أو ليبراليين ذلك كافٍ لأن يصرفوا عن شخوصهم صفة التطرف والتشدد، وكأن التطرف والتشدد يقتصران على أصحاب العقائد الدينية، وبخاصة اليوم المسلمين منهم، يقول أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة « لقد علمنا القرن العشرون أن ليس هنالك بالضرورة عقيدة تحريرية بذاتها، فجميع العقائد قد تنحرف عن أهدافها ويشوبها الفساد، وتقوم بسفك الدماء من الشيوعية والليبرالية والقومية وكل ديانة من الديانات الكبرى، وحتى العلمانية. فلا أحد يحتكر التطرف وبالعكس، لا أحد يحتكر النزعة الإنسانية» أعتقد أن تأتي هذه الشهادة من شخصية كشخصية أمين معلوف فهي أقوى من أي إستشهاد آخر، فتصعب المزايدة هنا على علمانية معلوف وليبراليته، وبكل تأكيد فهو مسيحي أكثر من أي علماني أو ملحد أو ليبرالي تعود جذوره لعائلة مسلمة. فيقول في موقع آخر من كتابه المشار له: «لو كان أسلافي مسلمين في أرض قد اجتاحتها الجيوش المسيحية، بدلاً من أن يكونوا مسيحيين في بلاد غزتها الجيوش المسلمة، لا أعتقد أنهم كانوا سيستمرون في العيش طوال أربعة عشر قرناً في مدنهم وقراهم، محافظين على ديانتهم، فماذا كان مصير مسلمي إسبانيا؟ وماذا حل بمسلمي صقلية؟ لقد أبيدوا عن بكرة أبيهم، وذبحوا وأرغموا على سلوك طريق المنفى أو جرى تنصيرهم بالقوة». هذه الخلاصة لم يتفرد بها أمين معلوف دون غيره، فهناك الكثير من الخلاصات لمفكرين ومثقفين آخرين من غير العرب وغير المسلمين، إن الموضوعية في التحليل والنقاش تتطلب منا أن نتجرد من معلومات جُرعنا بها خطأً في حق التاريخ العربي والإسلامي وفي حق أنفسنا كمنتمين لهذه الأمة وحضارتها. وفي حق كثير من الأمور المتعلقة بالنظر للماضي وثقافة الأمم والحضارات وما تنتجه من فكر وفلسفة. وكباقي الحضارات ليست الحضارة الإسلامية حضارة طوباوية أو مثالية على طول ممارساتها، فمن قاد هذه الحضارة هم بشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، قدم بعضهم في مراحل أمثلة جيدة على أصعدة مختلفة ومنها الإنساني، وأخفق بعضهم الآخر في مراحل أخرى وعلى أصعدة أيضاً مختلفة وكذلك الإنساني منها، إنما أن يسعى البعض لحصر حالة التخلف والتطرف على هذه الأمة وحضارتها وعقيدتها فهو الأمر الأكثر تطرفاً، فمن الأجدى عند التحليل أن تتخذ الأمور وعبرتها بنتائجها.
مشاركة :