لم يكن يوماً حُلم الثراء أحد أحلامي المفضلة، أحب الستر أكثر من الثراء، صحيح أنني أحب المال وأحب الهدية وزُين لي ما زُين لأفضل وأشرف الخلق قبلي - الطيب والنساء - ولا ينقصني سوى أن تُجعل قرة عيني في الصلاة، إلا أنني لاحظت على نفسي أنه إذا جاءتني دفعة كبيرة من المال، ينقلب حالي ويضيق خيالي وأضرب أخماساً في أسداس في كيفية إنفاقه ولماذا، وهكذا فقد أخبرني السيد سيغموند فرويد أنه ووفقاً للحيل الدفاعية في عقلي اللاواعي، من أجل ألا أشعر بالألم في كل مرة تقع أموال كثيرة بالنسبة لي تحت يدي، فقد كنتُ فاقداً لأهم ثلاث مهارت لكي أكون من الأثرياء... كيفية كسب المال وكيفية إنفاقه وكيفية ادخاره.ليست لي مُيول تجارية، وكل المشاريع التجارية التي دخلتها خسرت فيها... بما في ذلك المشروع القائم على اقتصاد المعرفة وبلا رأس مال!وكُنت أعتقد أن ما أنا فيه سببه إعاقة ذهنية غير مصنفة في الموسوعات الطبية، وأن اكتفائي براتب الوظيفة الحكومية، وجلوسي في المنزل ما هو إلا حالة ركود ستجعلني في نهاية المطاف وإذا أطال الله في عمري وتخطيت الخمسين، ربما ألقي نظرةً على العشرين سنة الأخيرة من حياتي فأجدها خاليةً من الأحداث.ولكن أيضاً، كنت أقول لنفسي: وما هي الأحداث التي تستحق أن نسميها أحداثاً؟ثم أجد صوتاً داخلي آخر يحدثني: ها أنت تمارس حيلك الدفاعية تجاه فقر قدراتك على منافسات السوق.ولأن الرجل الذي يحب الثراء في رأسي صوته أعلى من الرجل الذي يحب الستر، فقد كنت أعتقد أنني مصاب بإعاقة ذهنية سيتم إضافتها في عالم الاقتصاد والنفس والإجراءات الوقائية للبنوك فيما بعد.ولكن قناعتي هذه تغيرت تماماً عندما دخلت شركة «النِشا والجلوكوز» التي أسسها الكاتب المبدع عُمر طاهر في 126 صفحة، ليجمع فيها الحكايات المفككة في سياق أدبي ترابطي عجيب.وهذا الكتاب الجميل الذي اشتريته من مصر على أحد الأرصفة في شارع طلعت حرب أو عبدالخالق ثروت... لم أعد أذكر، لم أتوقع أن أجد فيه هذه القصة الرائعة التي أعادت لي توازني الانفعالي و أود مشاركتكم بها وتقول:أن رجلاً أميركياً زار قرية ساحلية ودخل أحد المطاعم، وطلب نوعاً من السمك لم يسمع به من قبل فأعجبه... طلب المزيد فقالوا له: الصياد لا يحضر لنا سوى كمية قليلة كل يوم، بحث الرجل عن الصياد حتى وصل إليه، راقبه فوجده اصطاد خمس سمكات من النوع الذي أعجبه، ثم هم بالانصراف، توجه رجل الأعمال إلى الصياد قائلاً:لماذا أنت مقل في ساعات عملك ومعدل إنتاجك، فقال له الصياد: أصحو كما يحلو لي، أفطر، ثم أتوجه إلى الصيد وأقضي ساعتين، ثم أبيع ما اصطدته لألحق بأطفالي على الغداء ونظل نلعب سوياً حتى موعد نومهم وفي السهرة أخرج لأسهر مع أصدقائي، نمرح ونعزف ونلهو حتى ساعة متأخرة.فقال له رجل الأعمال:إذا ضاعفت ساعات عملك ستحقق ثروة أكبر، وتستأجر شباباً يعملون عندك، بعدها ستبيع للمطاعم كلها، وستحتكر هذا النوع من السمك، وبعدها تصدر الفائض للمدن الكبيرة، وتحول مكتبك إلى شركة، وتصدر لكل أنحاء العالم، وتصبح واحداً من أثرياء الكوكب.قال له الصياد: وما الذي سأستفيده بعد ذلك؟فقال له رجل الأعمال:ستصبح ثرياً بدرجة تمكنك من الاستمتاع بحياتك، وستصبح قادراً على تملك بيت في قرية مثل هذه، تقضي فيه الإجازة، تسبح وتمارس هواية الصيد، وتستمتع باللهو مع أطفالك، وتقضي ليالي الصيف على شاطئ مخصص للأصدقاء والعزف والمرح حتى ساعة متأخرة.إلى هنا انتهت القصة عزيزي القارئ، حيث وصل رجل الأعمال «الطموح» لنفس النتيجة التي وصل إليها الصياد «القنوع» بما هو عليه.وكان يمكن للقصة أن تمر مرور الكرام، لولا السؤال الذي وضعه عُمر طاهر في نهايتها قائلاً:- هل بائع السمك في الحياة الأولى هو نفسه في الحياة الثانية؟ وهل من الممكن أن يصيرا صديقين يوماً ما؟في الواقع ولكي أكون صادقا معك، فإن القصة لم تقنعني بشكل كامل، لأنني ما زلت أسمع صوت الرجل الذي يحب المال في أذني يقول: هذه حيلك الدفاعية، هكذا أنتم القراء، تبحثون عن كل مسكن للألم في القصص والحكايات والروايات، ضعفاء بما فيه الكفاية لكي تحلموا بالثراء في السر، وتحسدوا الأثرياء في العلن.أما الرجل الآخر فيرد:- عموما كل ما لم يُذكر فيه اسم الله...ابتر... لا علاقة بالثراء أو الستر بالموضوع.إن مراجعة الأفكار تنطوي على قدر من المشقة، ولكن هذه المشقة أفضل كثيراً من عمق المسافة التي نقطعها في طريق لا يفضي إلى شيء.moh1alatwan @
مشاركة :