في زيارة لمدرسة حفيدي الذي يدرس في السنة الأولى الابتدائية في ولاية نيوجيرسي الأميركية شاهدت ما يمكن أن يقوم به التعليم لبناء شخصية الطالب وزرع القيم والعادات الجميلة كالقراءة والرياضة والرقي بالذوق العام، فرغم أن المدرسة حكومية إلا أنها تحتل تصنيفاً متقدماً في أدائها أصبحت معه من أفضل المدارس في أميركا وحازت على نسبة تسعة من عشرة في تصنيف جودة التعليم. سرعة إصلاح التعليم دون تدخل من غير أصحاب الاختصاص، وإعطاء الجامعات استقلاليتها وتوأمتها مع جامعات عالمية، ودعم وتوحيد جهود البحث والتطوير ستضع المملكة في الطريق الصحيح إلى مصاف الدول المتقدمة التي تعتمد على اقتصاد المعرفة رأيت ما تحويه المدرسة من ملاعب داخلية وخارجية ومسرح وصالة فنون وعيادة صغيرة بها ممرضة ومكتبة كبيرة بها آلاف القصص التي يستعير منها الطالب كتابا كل أسبوع ليقرأه مع والديه ثم يعيده في نهاية الأسبوع ويستعير كتاباً غيره، وعلى كل طالب أن يشارك في لعبة رياضية أو أكثر، حضرت حفل نهاية السنة ووجدت أن أكثر الآباء والأمهات قد حضروا وبعضهم تطوع للقيام بتنظيم الحفل وتجهيز المسرح وتنظيم جلوس الحضور. تعجبت من طالب بدا عليه الغضب لتأخر والده عن الحضور ولم يره وهو يؤدي دوره على المسرح أثناء الحفل، لم يقتنع ذلك الطالب بالأعذار التي ساقها والده. التعاون مع المدرسة ليس مقصوراً على أولياء الأمور، لكنه يمتد إلى كل من له علاقة بسلوك الطالب في المجتمع، ففي أحد الأيام حضر إلى المدرسة رجال الإطفاء ليعطوا محاضرة قيمة عن مخاطر الحريق والتصرف عند حدوثها، كما حضر في وقت آخر رجل مرور ليعلمهم وسائل السلامة كاجتياز الطريق وضرورة أن يركب الطفل في المقعد الخلفي لخطورة الجلوس في المقعد الأمامي للسيارة، التعليم هناك ليس للتلقين والحفظ والاختبار، لكنه لبناء الشخصية من جميع الجوانب، وتعزيز مهارات الاتصال وتعلم مبادئ السلامة والتعايش مع الآخر وتقديره واحترامه، وعدم العبث بالممتلكات العامة والحفاظ على البيئة وعدم تلويثها. تذكرت وأنا أنصت إلى فقرات الحفل عبارة قالها الرئيس الأميركي ليندون جونسون حين كان في البيت البيض وردت في كتاب الدكتور أحمد العيسى عن التعليم، يقول الرئيس:(من على المكتب الذي أجلس عليه تعلمت الحقيقة: أن الحل لكل مشكلات بلادنا، ولكل مشكلات العالم، يرجع إلى كلمة واحدة: التعليم) المملكة والمنطقة تمر بتحديات كثيرة ومخاطر جمّة لا يمكن اجتيازها إلا بإصلاحات جذرية سياسية واقتصادية واجتماعية تبدأ بخطوة أولى شجاعة لإصلاح التعليم حتى يكون الوسيلة الفاعلة لمواجهة التحديات الآتية: أولاً- الإرهاب والحروب الطائفية والمذهبية التي تشنها منظمات تتخذ من الإسلام ستاراً لتنفيذ مخططات خارجية لتقسيم الدول العربية الكبيرة إلى دويلات متناحرة هي أكبر التحديات التي تواجه العالم العربي والإسلامي، وهذه المنظمات الإرهابية تعتمد في تجنيد المقاتلين على ثقافة الموت والتكفير وتفسر النصوص لتناسب أهدافها، ثقافة هي أسوأ ما أنتجته العصور المتخلفة حين انكفأ المسلمون في عصور لاحقة. وأمام هذا التحدي لا أجد وسيلة سوى إصلاح التعليم بدءاً بتنقيح المناهج من كل ما يقود إلى المنهج الخفي الذي يوظف لكره الآخر وتكفيره، وتصحيح مفهوم الجهاد الذي أصبح مهمة الدولة ممثلة في وزارة الدفاع والحرس والداخلية، وليس مهمة صغار يغرر بهم ليصبحوا قنابل متفجرة في أجساد الآمنين المسالمين. أما أهم عناصر التعليم على الإطلاق فهو المعلم الذي يجب أن يحسن اختياره وتدريبه وابتعاثه ليرى النماذج الناجحة في مدارس دول العالم المتقدم، ولابد أن يحظى هذا المعلم بالتقدير المادي والمعنوي ليقوم بواجبه خير قيام. ثانيا- يواجه شباب اليوم تحديات كبيرة صحية وأخلاقية واجتماعية نستطيع أن نواجهها ونقلل من أضرارها في المستقبل عن طريق التعليم المتميز فهو السبيل لحل الكثير من مشكلات المجتمع وتحدياته، بالتعليم الجيد نستطيع أن نكافح التدخين والمخدرات ونقلل من وباء السمنة بين الصغار، ونحارب العنف في البيت والشارع والمدرسة، التعليم هو أكبر رافد لبناء جيل قوي في عقيدته وعقله وبدنه وسلوكه، وفي زرع ثقافة الحب والتسامح والإخاء، وهذا كله يتطلب أن يطبق ويمارس على أرض الواقع في المدرسة داخل الفصل وخارجه. ثالثا.- التعليم المتميز هو السبيل لبناء أمة عظيمة قوية، فالولايات المتحدة الأميركية قادت العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً بفضل التعليم، وبنت أفضل الشركات وأغناها على مستوى العالم بفضل جامعاتها ومراكز الأبحاث فيها، وحين ننظر إلى أقوى مئة جامعة في العالم نجد أن جامعات أميركا تحتل ما لا يقل عن تسعين جامعة من ذلك العدد. ولو تركنا الولايات المتحدة جانباً وأخذنا دولا صغيرة فقيرة في ثرواتها الطبيعية مثل سنغافورة لوجدنا أنها تحتل المركز الثاني في دخل الفرد على مستوى العالم بفضل جودة التعليم، وثقافة حب العمل وإتقانه، ومحاربة الفساد، واختيار أفضل الكفاءات لقيادة مؤسسات الدولة. التنمية المستدامة هي التي لا تعتمد على ثروات ناضبة، بل تعتمد على إنتاج العقول المتفتحة والسواعد المنتجة. تعليم المملكة مرّ ببدايات جيدة ولكنه تأخر كثيراً حين تولى التعليم من أدلجوه، وأدخلوا ذلك الكم الهائل من مواد العلوم الإنسانية التي طغت على ما عداها وأصبحت تحتل حوالي 50% من النصاب وعلى حساب المواد العلمية، وتوقف إجراء التجارب في المعامل، وغابت الأنشطة والفنون التي ترتقي بالذوق وتهذب الأخلاق، كما أصبح التعليم وظيفة من لا وظيفة له، حتى ولو كان من أكثر الكارهين لرسالة التعليم السامية. سرعة إصلاح التعليم دون تدخل من غير أصحاب الاختصاص، وإعطاء الجامعات استقلاليتها وتوأمتها مع جامعات عالمية، ودعم وتوحيد جهود البحث والتطوير ستضع المملكة في الطريق الصحيح إلى مصاف الدول المتقدمة التي تعتمد على اقتصاد المعرفة الذي أساسه التعليم الذي يحث على البحث والاستقصاء والشك والتمحيص، وهو أيضا ما يحصن الشباب ضد سهولة تجنيدهم وجرهم إلى جبهات القتال.
مشاركة :