في تلك القرية الهادئة الوادعة ذهبت لإعطاء محاضرة للطلبة سألت مدير المدرسة عن أهم المشاكل التي يواجهها ويريد مني التركيز عليها أجاب: الخوف عليهم من التطرف والغلو والعصبية القبلية، أو التفريط الذي أوقع بعضهم بالتهاون والتكاسل، كما أصبح السهر حتى الصباح مشكلة لدى بعض الطلبة، ولدينا آفة التدخين التي انتشرت بين صغار السن وأصبحت بوابة إلى ما هو أعظم، وأضاف: أكثر الطلبة فقد البوصلة ولا يعرف كيف يحدد الهدف. كل الدول التي واجهت التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية تعاملت معها من خلال بوابة التعليم وإصلاحه، فالتعليم هو الأداة الفاعلة في يد الدولة لمواجهة المستقبل وتحدياته.. التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي تختصرها هذه القرية، مما يعني أننا لو تعاملنا مع مشكلة هذه القرية لخطونا أولى الخطوات الصحيحة للتعامل مع التحديات القائمة، وهي تحديات لم تبدأ مع الاستعمار الذي سعى لنهب الخيرات وزرع التفرقة، ولا مع قيام إسرائيل وما تحوكه من مؤامرات وحروب، ولا مع الانقلابات العسكرية التي أجهضت كل جميل وصادرت الحريات وكممت الأفواه، ولا مع الثورة الدينية الخمينية ومحاولاتها تصدير الثورة ولا مع الصحوة وتركيزها على المظاهر دون المخابر، وعلى العبادات دون المعاملات ثم دخول جهيمان إلى الحرم ومحاولة فرض شروطه، كل ذلك أعراض لأمراض مستوطنة. مأساة العالم الإسلامي أبعد من ذلك بكثير وهي مأساة الإنسان في كل زمان ومكان وهي ثقافة الوهم أنه الوحيد الذي يفهم الحياة ويمتلك الحقيقة، وأن الآخر المختلف معه في الدين أو المذهب أو الرأي أو اللون هو عدو يجب أن يحارب حتى يخضع ويستسلم، رأينا ذلك في حروب المسلمين مع بعضهم منذ مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه وحتى وقتنا الحاضر، ورأينا ذلك في أوروبا في حروبها الطائفية وحتى الحرب العالمية الثانية، ورأينا كيف تمت إبادة شعب بأكمله بعد اكتشاف أميركا على يد المستوطنين البيض، ولا ننسى ما قامت به الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي والصين من قتل جماعي لملايين المعارضين لها والمطالبين بالحرية، لقد علمنا التاريخ أنه لا حدود لطيبة الإنسان وكرمه ولا حدود لجهله ودمويته وجبروته. وما يتعرض له العالم الإسلامي اليوم بحاجة إلى وقفة صادقة مع النفس، فلا يمكن أن تكون كل هذه المصائب والتحديات من صنع قوى خارجية فقط، لكنها نتيجة عوامل كثيرة داخلية وخارجية يجب أن نبحث عنها وعن أسبابها وعلاجها بطرق علمية، ومن أكثر التحديات التي يعانيها العالم الإسلامي اليوم هو الإرهاب الذي انتقل من تفجير المساكن والمؤسسات إلى تفجير المساجد وقتل المصلين داخلها، ومن أخطر ما يمر به العالم الإسلامي اليوم هي الطائفية والتي انتشرت بقوة. والتحديات الأخرى التي تهدد كيان المجتمع وصحته هي المخدرات والمسكرات وداء السمنة والأمراض المصاحبة وهذه ستضع أعباء صحية ومالية هائلة على الدولة في المستقبل وتلتهم كل طاقات الشباب ومقدرات الوطن ولن تكفيها كل مداخيل الدولة. ولهذا أرى أن المستقبل مليء بالتحديات مالم نخطط له جيداً ونبدأ بالخطوات الآتية: أولاً. لا يمكن أن يصرف الطبيب العلاج إلا بعد أن يعرف السبب الحقيقي للمرض، ونحن في حربنا مع الأمراض السابقة نحوم حول الحمى ونتفادى البحث الجاد عن أسبابها داخل أنفسنا مع أن الله تعالى أخبرنا أن معظم المصائب هي من عند أنفسنا. واليابان بعد الحرب العالمية الثانية كانت تعاني من الفقر والمرض والبطالة والمجاعة لكنها نهضت بفضل معرفتها الحقيقية لأسباب الحرب وليس نتائجها، لقد كانت تعاني من تسلط العقلية العسكرية التوسعية والسلطة المقدسة والمطلقة لامبراطور اليابان، وحين حددت أهم الأسباب شرعت في البحث الجاد عن العلاج لتجدها في جودة التعليم وفي الاقتصاد القوي الذي يعتمد على جودة المنتج وتصديره، وعلى بناء المؤسسات الديمقراطية التي تضمن الاستمرارية والمنافسة الجادة والعمل من أجل الوطن ورفعته. البحث الحقيقي عن أسباب الأمراض الاجتماعية من غلو وإرهاب ومخدرات وغيرها بحاجة إلى مراكز أبحاث متخصصة وإلى إشراك الجامعات وخصوصاً كليات الدراسات الإنسانية حتى نكون على بينة بالأسباب الحقيقية لكل مشكلة، وهذه المهمة من أصعب المهام لأنها تعني البحث الجاد وغير المرحب به من شريحة كبيرة من المجتمع، فالناس تريد أن تلقي بالمسؤولية على قوى خارجية من الصعوبة أن نتعامل معها وهذا يعفينا عن البحث وتأنيب الضمير وتعذيبه، وفي العالم العربي ننسب الكثير من أسباب النكسات والهزائم إلى عدو كبير وقوي بحجم دولة عظمى حتى يكون اليأس والاستسلام للمرض، ولهذا تستمر الأخطاء وتختفي الحلول الجذرية. ثانياً. كل الدول التي واجهت التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية تعاملت معها من خلال بوابة التعليم وإصلاحه، فالتعليم هو الأداة الفاعلة في يد الدولة لمواجهة المستقبل وتحدياته، ففي كل يوم يجلس على مقاعد الدراسة خمسة ملايين طالب وطالبة، إما أن نكتفي بتلقينهم المعلومة في أجواء كئيبة ومملة ونمنحهم في آخر العام شهادة اجتياز المرحلة، أو أن نجعل من مدارسنا واحات حب ومرح وحوار واكتساب مهارات وقدرات تسهم في تخريج مواطنين أصحاء في عقولهم وأبدانهم. وزارة التعليم هي الشريك الأول لوزارة الداخلية في محاربة الارهاب والغلو والتطرف، وكل معلم لا يقل أهمية عن الجندي الذي يواجه الإرهاب ويضحي بنفسه من أجل وطنه. والتعليم هو الشريك الأول لوزارة الصحة في تأسيس رعاية صحية أولية تبدأ من المدارس فتحارب التدخين وداء السمنة وتسوس الأسنان وهشاشة العظام وغيرها، والتعليم هو الشريك الأول لكل الوزارات الخدميه والقطاع الخاص في إعداد جيل منضبط ملتزم بعمله محب لوطنه ومحافظ على مكتسباته، التحديات كبيرة والحل يبدأ بمعرفة الأسباب الحقيقية لما يحدث والمبنية على الدراسات العلمية الرصينه وليس ما يردد في مواقع التواصل الاجتماعي أو المحطات الفضائية، ثم استثمار التعليم بكل مراحله حتى نؤسس لجيل قوي في عقله وبدنه، ونجني ثمار ما نعمل في المستقبل. أبناؤنا وأحفادنا يستحقون حياة أفضل مما تواجهه المنطقة من حروب وبطالة وأمراض مستعصية.
مشاركة :