تعرف ريادة الأعمال بأنّها نشاط يهتم بتأسيس الأعمال الجديدة التي تعتمد على المبادرة باقتحام مجال جديد، أو بتنظيم توليفة مغايرة لما هو قائم من الأعمال من أجل تفادي المنافسة أو التحديات المختلفة في مجالات الأعمال التقليدية القائمة وتحقيق الربح مع تقدير المُخاطرة المترتبة على ذلك، والتحسب لتداعياتها المحتملة حتى قبل تنفيذ تلك المشروعات، وبناء عليه فإن رائد الأعمال هو من يمتلك مجموعة من المهارات والمرئيات العقلية الارتقائية المتميزة إلى جانب رصيده من التحصيل العلمي والفني، بحيث يكون محصلة ذلك هو التخطيط والتنفيذ للعمل الجديد. وفي ظل تداعيات جائحة كورونا وما فرضته من واقع صحي واجتماعي واقتصادي مغاير عما كان قبل ظهورها جزئيا أو كليا، يصبح من الضروري استلهام قواعد الريادة في إيجاد الحلول للمعضلة الإنسانية التي تسببت بها جائحة كورونا وسيبقى تأثيرها لعدة سنوات قادمة، فعلى سبيل المثال على الرغم من عدم السيطرة على جائحة كورونا وأن أعداد المصابين بالفيروس تتزايد، فإن العديد من دول العالم بدأت بمراجعة سياسات الإغلاق التي اعتمدتها، والعودة ثانية إلى فتح الاقتصاد للحد من التدهور الذي أصاب مؤشراتها الاقتصادية واستنزف أحجاما كبيرة من مواردها المالية، وتسبب في البطالة، واحتمالات الإفلاس لعدد كبير من شركاتها، ولكي لا تكون العودة إلى فتح الاقتصاد بمثابة إعادة إنتاج لفيروس كورونا فإنها لجأت إلى التدرج في فتح الاقتصاد مع نقل الكرة إلى ملعب المواطنين والعاملين في قطاعات الاقتصاد لوقاية أنفسهم من الإصابة بالفيروس، وهنا تتاح فرصة جديدة لرواد الأعمال لإعادة تنظيم وهندسة الأعمال بالشكل الذي يحقق متطلبات الوقاية والحماية (التي كانت تقوم على قاعدة التباعد)، مع استمرار العملية الإنتاجية بكامل مواردها البشرية، وهو فرصة لتأسيس أعمال جديدة بمجال إعادة تنظيم بيئة الأعمال في ضوء محددات جائحة كورونا. فمثلا في قطاع المنشآت السياحية الذي كان من أكثر القطاعات تأثرا بالجائحة وسيبقى كذلك لفترة غير قصيرة، من المحتمل أن يتغير نمط الطلب السياحي العالمي إلى التركيز على السياحة الطبيعية كالصحاري والمراعي الواسعة والغابات والشواطئ، والسكن في الشاليهات الصغيرة والمتباعدة ذات الخصوصية العالية، بدلا من الفنادق الضخمة والأماكن المغلقة الفارهة الرفاهية، وهذه فرص لإعادة تنظيم التسويق السياحي، والاستثمار بهذه المجالات، وتوفير متطلبات السياح بأسلوب جديد. كما تتيح جائحة كورونا فرصا لأعمال أخرى بمجال الاستشارات الصحية والتعقيم، والإسكان المعزز للصحة العامة، والاستثمار في إنشاء مختبرات متخصصة بفحص المصايد البحرية وتحليل مركبات الاسماك خوفا من تعرضها لملوثات أو فيروسات ذات تأثير صحي بعيد أو قريب، علاوة على استثمار جائحة كورونا في الدفع باتجاه تسريع الاستثمار بمنتجات الثورة الصناعية الرابعة سواء بمجال التكنولوجيا المالية، أو التكنولوجيا العقارية، أو تكنولوجيا التعليم والتدريب، وتنظيم الملتقيات عن بعد، وتطبيقات التجارة الإلكترونية، والعملات الإلكترونية وغيرها من المجالات الرقمية واللا تلامسية. كما تتيح معطيات الجائحة فرصا استثمارية بمجالات الأمن والترصد الصحي، ومتابعة وكشف بحوث وتجارب المختبرات البيولوجية، بحيث تكون هناك أقسام متخصصة بقضايا الفيروسات ونشر الأمراض في أجهزة الاستخبارات، علما بأن العديد من أجهزة الاستخبارات في الدول المتقدمة تقوم برصد المخاطر الصحية وتعدها من أسرارها القومية، لذا ينبغي أن تعتمد دول العالم على أجهزة استخباراتها الوطنية في البحث عن مهددات الأمن الوطني بما فيها الأمراض والأوبئة. ويمكن الإشارة إلى حقيقة مهمة، هي أنه على الرغم من أن ريادة الأعمال تعتمد على مهارات نابعة من المبادرات الفرديّة فإنها تحقق أفضل النتائج حينما تكون ذات طابع مؤسسي بحيث يتمكن مديرو المشروعات القائمة من استنهاض الطاقات الإبداعية لدى فريق العمل جميعه، ولا سيما أن التطورات العلمية والتقنية المتسارعة جعلت من ريادة الأعمال آلية مهمة من آليات التطوير الاستراتيجي في مختلف المنشآت الساعية إلى كسب السوق، وامتلاك مقومات المنافسة، فكيف الحال في ظل تداعيات كورونا التي جعلت مختلف المنشآت القائمة أمام اختبار خطير؟ فإما أن تواصل مسيرتها الإنتاجية في ظل بيئة جديدة غير البيئة التي أنشئت في ظلها وأعدت دراسة جدواها الاقتصادية على ضوء معطياتها، وذلك يفرض عليها تغيرات قد تكون جذرية في مختلف أقسامها الإدارية وهياكلها الإنتاجية وأساليبها في التسويق والمنافسة، وحسابات التكاليف، والتوظيف، وإما أنها تفشل وتعلن إفلاسها، لذا عليها ان تبحث عن الإدارة الريادية المبدعة التي يتسع تفكيرها ومجال اهتمامها ليتضمن إنفاذ استراتيجية لإنقاذ وتطوير المنشأة في ضوء الواقع الجديد المتغاير، وتحفيز ودعم مبادرات الموظفين والعاملين فيها التي تصب في هذا الاتجاه، فضلا عن تطبيق آليات التجديد الاستراتيجي الذي يشمل إعادة التفكير في التوجهات والفرص المتاحة للمنشأة. وبناء عليه فإن جائحة كورونا ستسهم ببروز جيل جديد من الإداريين الاستراتيجيين الرواد على صعيدي القطاع الخاص والعام، وفيما يتصل بمملكة البحرين لا بد من الإشادة بالنموذج البحريني لريادة الأعمال باعتباره نموذجا متميزا قابلا للتطبيق، والذي يرتكز على فكرة أساسية تقوم على احتضان المشروعات الناشئة وتقديم المساعدة والاستشارة والتمويل لها عن طريق المؤسسات الداعمة، في إطار سعي المملكة إلى استنبات الاقتصاد المعرفي، وتوفير بنيته التحتية المعرفية والمؤسسية، والذي نجم عنه قاعدة مميزة من المشروعات القادرة على المنافسة والاستدامة، ونأمل أن يتم تطويره ليركز على مرئيات جديدة نابعة من معطيات أزمة كورونا واحتمالات تعرض الاقتصاد الوطني لأزمات بذات الحجم أو أقل أو أكثر في المستقبل، بحيث يمكن المنشآت من المرونة والقدرة على التكيف، واستبدال وتطوير الاستراتيجيات عند مختلف الظروف، وبذلك تتحقق الاستدامة المؤسسية التي تعد جزءا حيويا من استدامة التنمية في البلاد. وبما ينسجم مع أهداف الرؤية الاقتصادية لمملكة البحرين2030م. ووفقا لما أكد عليه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد الأمين، نائب القائد الأعلى، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس التنمية الاقتصادية بالقول «إن القدرة التنافسية العالية في الاقتصاد من خلال المميزات المتوافرة والتشريعات والنظم المتطورة ستسهم في التشجيع على الاستثمار وتنميته وزيادة الإنتاجية، والتحفيز على الابتكار والإبداع الذي سيسهم في زيادة حيوية مختلف القطاعات وتسريع وتيرة النمو الاقتصادي بما يعود أثره على الوطن والمواطنين». { أكاديمي وخبير اقتصادي
مشاركة :