هل حانَ وقتُ توديعِ العزلةِ والعودةِ للحياةِ الطبيعيةِ التي تجبرُك على دخولِ حلبةِ الصراعِ البشريِ بأشكالٍ مختلفة؟ كيف يحدثُ النجاحُ دون تحديات؟ وكيف تنشأُ التحدياتُ دون مؤثراتٍ بشرية؟يمكننا تأطيرُ علاقاتِنا الإنسانيةِ ووضعُها ضمنَ قوالبَ معنونةٍ بـ«البعيدُ، البعيدُ جدا، المتوسطُ، القريبُ، القريبُ جدا» والأكثرُ من ذلك، يمكنُنا اختيارُ عزلتِنا في الوقتِ الذي نشاء، ولكنْ لأي حدٍ يمكنُنا البقاءُ؟لا أجدَ فكرةَ العزلةِ التامةِ عن الجماعةِ فكرةً صامدةً على أرضِ الواقعِ، فأدنى مستوى من الحياةِ واحتياجاتِها يتطلبُ تبادلَ منافعَ يجبرُنا على كسرِ حاجزِ العزلةِ والسيرِ في طريقِ التعايشِ والتكيفِ والاندماجِ، وربما الانسلاخُ الذي يثبتُ وجودَ علاقةٍ سابقةٍ.إذًا أين نحن من العزلة؟ أو أين العزلةُ منا؟ ولأي حدٍ يحدثُ الاندماجُ ومتى تنتقلُ الروحُ لحيزِ العزلة؟إن العزلةَ الممكنةَ هي النأيُ بالذاتِ عمَّا يجرُّنا نحو حيزِ الغرابةِ بالنسبةِ إلينا، ففي البيئةِ العمليةِ اليوميةِ ليس بمقدورِنا الانعزالُ عن مواجهةِ الزملاءِ والعملاءِ، ولكن يمكن تحجيمُ العلاقةِ في إطارِها العملي الإجباري نوعا ما، واعتزالُ كل ما يأتي بعد ذلك.هذه ليست دعوى غريبةً بل هي ممارسةٌ تنبعُ من داخلِ الإنسانِ الذي كلما زاد اتساعُ دائرةِ معارِفِه ضاقَ حيِّزُ المقربين منه، فعلى ماذا يدل هذا؟يحتشدُ عددٌ هائلٌ من المتابعينَ لبعضِ الشخصياتِ المعروفةِ والمشهورةِ في أوساطٍ مختلفة، قد تشكلُ هذه الشخصيةُ قيمةً هائلةً لهذه الجموع، ولكن ماذا تشكلُ الجماعةُ بالنسبةِ للفرد؟ غير الشهرةِ وطريقِ كسبِ الأموالِ وتأييدِ الأصواتِ والوجاهةِ الاجتماعية! فهذه أنواعٌ من التبادلِ المنفعيِ بين الفردِ والجماعة، ولكن لو جردنا العلاقةَ من ماديتها، ماذا سيبقى؟ وكيف ستصمد؟إن العزلةَ هي البحثُ عن الذاتِ المكنونةِ في الأعماق، ولهذا تأتي بهيئةِ تبتلٍ روحيٍ وانقطاعٍ ذاتيٍ، ففيها يخلعُ الإنسانُ كلَ الأقنعة ويمسحُ المساحيقَ ويتجردُ من الغطاءات ليمتثلَ عارياً أمام ذاته! يغرفُ من صفاءِ النبع ليسقيَها بعيدًا عن مَشُوبات الاحتكاك بالآخرين. فأسمى تجلياتِ الحب، وأصدقُ لحظاتِ الشعورِ تلك التي تَظهرُ في العزلة، لحظة رقيقة دقيقة، تشبهُ عزلةَ الشاعرِ الذي لم يكن لولا جمهورُ الشعرِ.
مشاركة :