عاصم حمدان: رثاء إنسان

  • 5/20/2020
  • 01:06
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

في مقالتي الرثائية لأخي وزميل عمري وصديق الصبا والشباب الأستاذ الدكتور عاصم حمدان سأحاول قدر استطاعتي ألا أتناول أعماله الأدبية والفكرية والتأريخية التي أثرى بها المكتبة العربية عمومًا والسعودية خصوصًا على مدى خمسين عامًا، وظهرت في مجلدات ضخام، وتعتبر من أهم المراجع الحديثة في الأدب والتأريخ والفلسفة والفكر، لأنني لطالما كتبت عن نتاجه الثرّ في مقالاتي الصحفية بهذه الجريدة الغراء التي ارتبط اسمانا بها منذ عشرات السنين، وفي بحوث علمية رصينة أو أحسبها كذلك نشرت في مجلات علمية أو قدمت في ندوات.بل سأركز على «عاصم: الإنسان»، واستعرت عنوان مقالتي من عناوين كثيرة له رحمه الله اعتلت زاويته ذائعة الصيت على مدى عقود في صحيفتنا العزيزة (المدينة) وهي زاوية «رؤية فكرية» التي ستشغر في مستقبل الأيام، وسُنحرم منها كل ثلاثاء بعد أن تواصلت لأربعين عامًا أو يزيد.. لطالما عنون فقيدنا الكبير زاويته «رثاء إنسان»، بعد اسم واحد من المتوفين من أحبائه أو زملائه أو رجال الوطن الأوفياء وها أنا أرثي إنسانًا يعتبر مثلاً يحتذى في الإنسانية، عرفت وشهدت إنسانيته على مدى عشرات السنين هو: عاصم حمدان، الذي تعلمت منه حتى آخر يوم من عمره كل معاني الإنسانية ومُثلها بأبهى وأرقى صورها.وأول درس إنساني تعلمته منه رحمه الله كان: الإيثار، في زمن تفشت منه الأثرة والأنانية وحب الذات، تعلمت هذا الدرس قبل خمسة وثلاثين عامًا كاملة حين عُدت من أمريكا وأصبحت زميلاً له مجددًا: أستاذًا مساعدًا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعتنا الحبيبة جامعة الملك عبدالعزيز، قابلني في ردهة الكلية وعرفني ولم أعرفه وقتها لطول العهد، وسألني: أنت محمد خضر عريف، قلت: نعم، فعانقني وهنأني على التخرج وسألني: هل خصص لك مكتب، قلت: لا، ليس بعد، فطلب مني أن أصحبه إلى مكتبه في مبنى كلية الآداب القديم، وفتح المكتب وإذ فيه منضدتان أو «ماصتان» كما نقول بالعامية إحداهما في صدر المكتب وهي كبيرة وفخمة والأخرى في ركن من أركانه وهي صغيرة ومتواضعة، وقال لي: أنت تجلس هنا وأشار إلى المنضدة الكبيرة الضخمة وأصر بشدة حتى إني لم أستطع أن أرفض طلبه.الدرس الآخر كان «الكرم».. كان رحمه الله كريمًا حتى تظن أنه لا يخشى الفقر كما يقال.. ولا أذكر أنه مر عليّ وعلى بقية أحبابه شهر واحد دون أن تكون لديه دعوة كبيرة لغداء أو عشاء إما في داره أو في مطعم أو منتجع وخصوصًا منتجعات الأسماك بجدة التي يختار منها واحدًا بعينه وهي مكلفة جدًا كما هو معروف، ولطالما دعاني وقال لي: لدي «ليلة» على شرف فلان.وكانت آخر «ليلة» في داره العامرة بجدة على شرف رجل العلم والأعمال الدكتور عبدالله صادق دحلان دعا إليها جمعًا من الأدباء والمفكرين والوزراء السابقين منهم: عبدالعزيز خوجة ومدني علاقي وعبدالله مناع وسواهم.. وكل «ليلة» من ليالي عاصم كانت أشبه بمنتدى فكري وأدبي وثقافي.ومن دروسه الإنسانية المتعلقة بالكرم -رغم أنه كان متوسط الحال مثلنا- الحرص الدائم على الصدقة، ولطالما صحبته للحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة وكان يجلس في مكان بعينه قرب الروضة، ويعرف بعض المساكين عن وجوده فيقدمون إليه فيفرغ كل ما في جيوبه عليهم بخفة وخفاء عجيبين.. وعلمني الكثير من فضائل الصدقة وكان يقول لي: «سيّل الدم كل شهر على الأقل يا محمد» إشارة إلى ذبيحة شهرية توزع على الفقراء كل شهر على الأقل.ومنه مُثله الإنسانية الكبيرة: التسامح والعفو، وسلامة القلب من الغِلّ.ويعلم الزملاء في قسم اللغة العربية أن أحدهم أساء إليه إساءة بالغة وكان بإمكانه استرداد حقه كاملاً، ولكنه عفا وسامح لوجه الله، وما عُرف عنه أبدًا أنه قابل الإساءة بمثلها أو أنه اقتص من صاحبها مهما بلغت.ومن مظاهر إنسانيته: الثبات على المبدأ في كل توجهاته الفكرية مهما كانت المتغيرات والتحديات، وعُرف بالوسطية والاعتدال في كل توجهاته.. وفي الوقت نفسه اتسم بقبول الآخر، وعدم تسفيه الرأي المخالف لرأيه، ولعل التواضع كان من أبرز سمات إنسانيته، فما تعالى يومًا على كائن كان بمن في ذلك خدمه، ورأيت بأم عيني سائقه الخاص وهو يبكي عليه بكاءً مرًا.اللهم يمّن كتاب أخي عاصم حمدان وأغفر له وأرحمه وأكرم نزله ووسع مدخله وأبدله دارًا خيرًا من داره وأهلًا خيرًا من أهله، وتجاوز ما له علينا وما لنا عليه، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا أبا أحمد لمحزونون.

مشاركة :