كان منتصف الستينيات انعطافة كبيرة بل جوهرية في تاريخ الشعر الحديث في البحرين، وخاصة مع صدور صحيفة الأضواء عام 1965 لصاحبها محمود المردي -طيّب الله ثراه- التي من خلالها تعرّفنا على شعراء جدد يكتبون بلغة وإيقاع وفكر مختلف عن السائد، إيذانًا بثقافةٍ جديدة ومناخٍ جديد، تمثل في الشعر الحر، مثل علي عبدالله خليفة وقاسم حداد وعلوي الهاشمي وحمدة خميس. كانت فترة خصبة احتدمت فيها النقاشات في الوطن العربي حول الشعر الحر الذي خرج في الخمسينيات تقريبًا، وبدأ يزدهر على أيدي روّاده مثل بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور وغيرهم. كان صراع فكر أكثر منه صراع شكل، فلكل فكر ثقافته وأشعاره أيضًا. وربما كان ذلك انعكاسًا أو امتدادًا لحركات التحرر الوطني في ذلك الوقت حيث ساد الفكر القومي واليساري، فكر التغيير أمام الشعر العمودي المتمسك بالسلفية الشعرية التي تعكس أحيانًا سلفية الفكر. في الضفة الأخرى كانت هناك حركة مختلفة تبلورت في الستينيات أيضًا من خلال مجلة «شعر»، هي حركة قصيدة النثر على أيدي روّادها مثل أنسي الحاج وجبرا إبراهيم جبرا ويوسف الخال ومحمد الماغوط وأدونيس وخالدة سعيد وغيرهم. وشنت حرب شعواء على شعراء قصيدة النثر، والتي تطورت إلى درجة أن العديد من «الثوريين» بدأ يكيل اتهامات خطيرة إلى جماعة قصيدة النثر وتخوينهم واتهامهم بأن وراء مشروعهم جهات مشبوهة!!من المعروف أن البحرين كانت دائمًا ولا تزال تتلقى الجديد الذي يبزغ في عواصم الثقافة في بيروت أو القاهرة أو بغداد من اليوم التالي، فهي جزيرة التفاعل مع كل الاتجاهات الإبداعية والفكرية. بحسب علمي كانت الشاعرة إيمان أسيري هي أول من كتبت قصيدة النثر في البحرين، من دون أي نوع آخر من الشعر، وجمعت تجربتها في أحد عشر ديوانًا حتى الآن. وفي رحلته التجريبية المبدعة بدأ الشاعر قاسم حداد رحلته مع قصيدة النثر في ديوانه «قلب الحب»، ومازال مستمرًّا في تجربته النثرية العميقة بأشكال شتى ليكون واحدًا من روّاد شعراء الحداثة البارزين في الوطن العربي. ويحق لي وأنا أعيد قراءته في أيام «الحظر» هذه أن أطلق عليه «الشاعر الساحر» بسبب لغته وصوره الصاعقة التي تصدم الخيال والذهن. وأعتقد أن الشاعر أحمد العجمي يأتي تاريخيا بعد إيمان في كتابة قصيدة النثر ثم الشاعرة ليلى السيد والشاعرة نبيلة زباري والشاعرة سوسن دهنيم والشاعرة فاطمة محسن. وهنا لا بد من أن نأتي على ذكر شاعر جميل متمكن يقيمُ بعيدًا عن الصخب والأضواء هو الشاعر جاسم الحاجي، الذي يكتب بلغة مبهرة وعميقة، وهو ذو تجربة متميزة وله ديوانان هما «غبار الظل» عام 2002 و«باب الصمت» 2006، لم يذكرهما أحد ولم يتطرق إليهما أحد بحسب علمي. كما أن هناك الشاعر علي الستراوي وهو من شعراء النثر المعروفين وله عدة دواوين ودخل مؤخرًا عالم الرواية وأصدر رواية «النديد» بالإضافة إلى كونه كاتبًا صحفيا متألقًا لم يحظ بما يستحقه من تغطية واهتمام.قصيدة النثر قطعت شوطًا كبيرًا في تطورها وأصبحت شكلا من أشكال الشعر التي لها شأنها. هناك خلط ظالم بين الخاطرة وقصيدة النثر؛ فالخاطرة لا تتجاوز كونها خاطرة، أما قصيدة النثر فتعتمد على الإيقاع الداخلي الخفي وعمق وغرابة الصور وإن كانت منفلتة عن قيود الوزن أو التفعيلة بالتركيز على الشعر الحقيقي غير النظمي، وغرائبية الصور التي تصل أحيانًا إلى حد السريالية وفرط الإدهاش. على هذا الصعيد أعجبني التوصيف العميق لقصيدة النثر من قبل الدكتور علاء عبدالهادي الأمين العام لاتحاد الأدباء العرب رئيس اتحاد كتّاب مصر في كتابه الموسوم (قصيدة النثر والتفات النوع: دراسة في النوع الشعري) الصادر من أسرة الأدباء والكتاب، إذ استند إلى قول «أبو عابد الكرخي» إن النثر أصل الكلام، والنظم فرعه والأصل أشرفُ من الفرعِ، واعتمد على قول ابن سيرين الذي ربط جماليات النثر بالشعر وقوله إن الشعر كلام عقد بالقوافي، فما حسن في الكلام حسن في الشعر، وكذلك ما قبح منه. ويضيف الدكتور عبدالهادي: «أما نزع الشعرية عن النثر وكأن الشعر أشرف، كأن الشعر موجود طبيعي له جوهر مثلُ الحديد أو النحاس، فحكم يتسم بالجهل تارة، وتسييس الأدب تارة أخرى، ويقوم على احتراب كاذب، وذلك لعدد من الأسباب منها: أن قصيدة النثر ليست في حاجة الآن إلى الاعتراف، بل هي التي تمنح الاعتراف -لو كان هناك اعتراف أصلا- فالفن هو كل ما يسميه الإنسان فنًّا، والجميل هو كل ما يسميه الإنسان جميلاً». إنها دراسة جديرة بالقراءة بما تتميز به من عمق وذكاء في توصيف قصيدة النثر التي أجدها أصعب من كتابة «نظم» وتسميته شعرًا وهو السائد في الغالب في هذه الأيام، فقصيدة النثر تعني أن تكتب شعرًا خاليا من النظم والأسوار والقضبان، مع مراعاة أن ليس كل ما يكتب من قصائد نثر هي شعر؛ لأن هناك كمًّا هائلا من الزيف والدخلاء والمدّعين. Alqaed2@gmail.com
مشاركة :