لو اعتمدنا ظاهر الحكاية وسردها، بحلقاتها ومشاهدها المختلفة في «عقل سيء السمعة» (نوفل، بيروت، 2015) فإننا لن نبتعد عن هيئة أو إواليات رواية، تتنزّل فصولها عند مؤلفتها السعودية زينب حفني، وفق فرضية مسبقة، يمثلها مرض، أو عِلة جاهزة، ينبني على أساسها، وامتداداً منها، عالم/ عوالم ذوات معتلّة نفسياً ومتورمة بأوصاب وأوجاع أكبر من طاقتها للتحمل، ضمن إطار مجتمعي موجود وموسوم بثقافة معلومة. والحق، لا مناص من قراءة أولى في ضوء فرضية، تتعدى مستوى طرحها وشرحها، لتصبح نسيج الحكاية وقصتها في آن، قد تواشجا إلى حد يصنع شبكة من أزمات وعلائق وصور ونماذج ومفاهيم يمكن أن نعتبرها وحدها سيمياء للتمظهر الفردي والاجتماعي، وفي خلفياتها تثوي معضلات الطرفين معاً، إذ من رهانات الرواية أن تقيم مسارات عبور وتفاعل مستدام بينهما، أو لا تكون. فرضية هذا المؤلَّف السردي، أن ينهض ويكتب ويؤول، في الظاهر على الأقل، على أساس تيمة أزمة سيكولوجية، منبتها النفس الإنسانية، وتتخذ من الجسد مضمار صولتها وهزاتها الجائحة، الجامحة، لتؤدي إلى الصدام في منطقة تضاد العقل باللاعقل، والمقبول بنقيضه؛ تيمة اسمها مرض» الاضطراب الوجداني الثنائي القطب، وغالبية الأطباء يطلقون عليه «ذهان الهوس الاكتئابي». من أعراضه: ضيق التنفس، وخزات في الصدر، اصوات حادة تصرخ في الأذن، أيدٍ تطبق على العنق، كثرة الكوابيس، ارتجاف، هيجان شبقي لا يعرف التخمة... عموماً إنه ذُهانٌ يحيل حياة صاحبه إلى جحيم بسبب ما يعتريه من تقلبات مزاج، يصل به إلى حافة الجنون. تتخذ الراوية وجدان قرار السرد في نفسها بعبارة: «رياح الذكريات تصفع وجهي بلا هوادة. أستسلم لغيّها». تُشْرِع وجدان نوافذَ روحها وجسدها على الماضي، بؤرته العِلّة الجينية، الموروثة التي انتقلت عدواها من أمها، ليصل تأثيرها، إلى جائحة شعورية تعصف بالداخل، وتزرع وباء الفصام، وتصنع اضطراباً تجاه أقرب الناس إليها، الأم بالذات، تغذيها أفعال خارجية، لا تنفك تصطلي بنيران الداخل. وهو ما تقوله بمنتهى الوضوح، وصراحة الإقرار أول عبارة في الكتاب: « لم أحب أحداً في حياتي كما أحببت أمي. ولم أكره أحداً في حياتي كما كرهت أمي» (9)، بحكم أن أمها منبع سعادتها، هي سبب شقائها، أي عدواها بمرضها. تحكي وجدان قصة أمها جميلة، كيف تزوجت أباها، وأنجبتها، وظهرت عليها أعراض مرض جدتها، ووصفها للأعراض، وكيف قضت طفولتها في وضع عائلي مضطرب، محفوفة بحب أبيها الذي يعيش وضعاً صعباً، ثم الصدمة التي تضرب براءتها حين تكتشف معاشرة أمها لمحمود ابن عم أبيها، لا خيانة مقصودة ولكن عرضاً للمرض، المعيّن بأنه لا شفاء منه، وهو قضاء وقدر. ونستمر في التعرف على حياة الأم وابنتها الراوية بتواز أو تواتر، أو هذه من خلال تلك، عبر جملة محكيات متماثلة، مكرورة، من قبيل زواجها وخساراتها مع محيطها العائلي ووسطها الاجتماعي، وسلوكها الشاذ، بسبب مرضها وتبعاته، بما يتحول إلى مستنسخات لا تحمل جديداً وإن زادت في تبئير المتن المرضي، من خلال تصوير واستبطان، ما أمكن، لحالة إنسانية (أنثوية)، تتكرر تمثيلاتها في وضعية مأزومة، وهي تحترق في جحيم تمزقها بين معاناة أقوى منها، ورغبة جارفة للعيش بأمان وقلب سليم. وكأننا أمام متلازمة الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، في تنازع تراجيدي لا يقوى الإنسان على دفعه، ومحكوم عليه وراثة، وقدراً. نزعة تنساق إليها الكاتبة بل تُمعن فيها الى درجة السذاجة أحياناً، وهي تسوّغ خطاباً أخلاقوياً، ووعظياً، محمّلاً بحِكم وعبارات العامة، وتعليقات فطرية منفصلة عن سياق السرد، هل يزكيها، إن زكاها، موقف أخلاقي مسبق، وليس بالضرورة منبثقاً من العمل، ملفوظات تحتاج إلى استبيان خاص: «... أحلى القبلات تلك التي لم نتذوق، أجمل اللحظات تلك التي لم نعشها... ظللت مؤمنة بهذه الفرضيات...» (86)؛» زمن المعجزات انتهى. نحن نعيش في عصر المشاعر اللحظية» (103)، ومثله كثير يؤكد فكرة الفرضية التي استهل بها هذا المقال. أجد الآن لعفويتها، فطريتها، أنها جاءت على لسان راوٍ، سارد طفل، ينطق ببراءة، وإن شطت به أحياناً إلى درجة الحكمة، فأيّ مفارقة. لا بأس، فقد علمني عمر من القراءة الصبر لها ومعها حتى صارت لي حرفة، ولذلك فأنا خلافاً للكاتبة التي تقول:» كان لدي اعتقاد راسخ بأنه ليس كل كتاب جديراً بالقراءة من الصفحة الأولى إلى نقطة النهاية!» (151)، أمضي إلى النهاية، بل وأعيد وأستعيد، علِّي أستزيد. قلت بيني إن زينب حفني ما كتبت عملها هذا، رسمت خطاطة، وضعت فرضية، وسعت للبرهنة عليها بتمثيل روائي، لتنتهي بقارئها إلى سؤال لا غنى عنه: «وماذا بعد؟» أمن أجل ذا تُكتب الرواية؟» بخاصة حين يبدو مصير شخصياتها (أبطالها) خارج سيطرة الكاتب، وقواعد اللعب بين يديه محدودة إن لم تكن منعدمة، بما أنها بيد (الجينات)، الوجه الآخر لعملة القدر. ما يدفع إلى البحث عن مسار غير ما مضى، وهو لن يخرج، في ما أرى الآن، عن نطاق وإستراتيجية (الرواية الأخلاقية)، أي التي تتوسل بمقتضيات ثقافة اجتماعية ووظائف إنسانية وتمثيلات فنية تضع فيها الإنسان في مواجهة نفسه ومرآة مجتمعه ضمن دائرة القيم المهيمنة والمتصارعة، وتحتمل الصعود والسقوط، بالانتصار لأحدها، شريطة أن يعاد إنتاجها، وتمثيلها فنياً لا بالمحاكاة الفجة، وإنما أساساً في وضع إشكالي، كما هو جدير بالرواية، أو لا تكون. ما همّ الآن، وفي نطاق هذه المقاربة، إن أدرك عمل الكاتبة هذه المرتبة حقاً، بقدر ما يعنيني انضواؤه في أفق يتخذ منها، من القصة وتيمتها، بحبكتها وشخوصها ومُثُلها، وسيلة وذريعة لها أكثر من شفيع في المجتمع ثقافةً ومعتقدات، تتعدى ما للمجنون، ولترسيخ حق الإنسان(المرأة) وإعلاء شعورها ورفعة وجدانها، لتسليط ضوء كشاف ونقد على مجتمع مسلّح بالأفكار المحنطة والمواقف المسبقة، والنابذه للحب والجمال. لا عجب أن يأتي العنوان موارباً، إذ ليس عقل (المجنون) وحده سيء السمعة، بل المجتمع كله. وبينما يعيش أحدنا مطمئناً إلى سلامة عقله، وطهرانية سلوكه، وحقه المطلق في أي حكم، يعشّش فيه التلف، ها هو صوت المرأة المكبوت يُفجر في وجهه غضبه ليقول حق جسده ومطلب جوارحه، لتكون الرواية قناعاً، إن شابته خروق، وتشابه على واضعها النوع أحياناً، فإنه في نوعه جاء لفظه سليماً، ناصعاً، جزلاً، يوافق مبناه معناه؛ لكم ذا نادر في سرد العرب، هذه الأيام.
مشاركة :