مارس معظم الناس خلال الشهرين الفائتين العزلة الإجبارية بسبب الحجر المنزلي الذي أوجبته تداعيات انتشار فيروس كورونا، وإن كان بعض الناس يعايشها نسبيًّا بين وقت لآخر، ويلجأ إليها بعض الأشخاص حين تطغى عليهم الضغوط النفسية، وتستبد بهم الهموم، ويضيقون ذرعًا بإزعاج الناس، والضجر منهم؛ لما لها من فوائد تعود على النفس بالهدوء، والذهن بالصفاء، وخصوصًا في حالة الجدل وتفشي الخصومات! عندها يمكن أن تحفظ العزلة دين الإنسان وخُلقه ونفسه بإبعادها عن المنتقصين لها، أو الساخرين منها، أو المتطاولين عليها! ومن خلالها يتفرغ المرء للتأمل، ومراجعة النفس، والتفكير الإيجابي، والتخطيط السليم، والعمل المثمر، وممارسة الرياضة، والبُعد عن ضوضاء الثرثرة والحوارات الهزلية والنقاشات التافهة، فضلاً عن تجنُّب مقابلة الحمقى والثقلاء. وقد اعتزل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قومه قبل البعثة لينأى بنفسه عما هم فيه من باطل وضلال. كما اعتزل أصحاب الكهف قومهم عندما خافوا على أنفسهم ودينهم. وقد أثنى ابن الجوزي في كتابه (صيد الخاطر) على العزلة فقال: «ما أعرف نفعًا كالعزلة عن الخلق، وخصوصًا للعالم والزاهد؛ فإنك لا تكاد ترى إلا شامتًا بنكبة، أو حاسدًا على نعمة، ومن يأخذ عليك غلطاتك.. فقد سلمتُ بالعزلة من كدر غيبة، وآفات تصنع، وأحوال المداجاة، وتضييع الوقت». وحينما تفتقد المجالس والاجتماعات البهجة، وتجلب الكآبة، وتسهم في نشر الفضول والثرثرة والإشاعات، أو تتسبب بالتجريح، أو جر الإنسان لتفكير القطيع دون تمحيص؛ عندها تطيب العزلة! بالرغم من أن النقاشات الثرية والحوارات النقية تكسب المرء المعرفة، وتبادل الآراء، وتلاقح العقول، ومداولة التجارب، وتجلب الأنس والسعادة. والعاقل يسعى لما يعود عليه بالنفع، ويبتعد عما يجرحه، ولاسيما الشخص الحساس؛ فيفضل له الابتعاد النسبي عن الناس كيلا يتسببوا له بالألم. وكذلك العالِم أو الباحث الذي يعد وقته ثمينًا؛ إذ لا يتمكن من إنهاء أبحاثه وإنجاز أطروحاته وترتيب أفكاره إلا في جو من العزلة والهدوء والسكون بعيدًا عن التشويش والاضطراب! فتكون حينئذ العزلة مملكة للأفكار، وفضاء للعقول، ونزهة للأذهان، وفسحة للخواطر، وبهجة للنفس.
مشاركة :