هناك لحظات ألق في الفنون والأدب تصل بالمتلقي حدّ الانتشاء الأقصى، فيتفاعل معها وكأنها إبداع إلهي، هناك من يتفاعل بقول “الله!“، وفي إسبانيا مثلا نجد كلمة “أوليه!“، وفي النهاية يبلغ التفاعل منتهاه وكأن المتلقي إزاء شيء خارق للطبيعة، ربما هي ذروة الشعرية في الإبداع، في صوت المغني أو لوحة الفنان أو جملة شعرية أو حركة راقصة. تطول ذروة الشعرية هذه أغلب الفنون، وتبقى غامضة ساحرة لا أحد يعرفها رغم أنه يحسّ بها. يقدم الشاعر العالمي فدريكو غارثيا لوركا في هذه المحاضرة “اللعب ونظرية الدويندي” فلسفته الجمالية عن شعرية الإبداع، التي يمكن أن نسميها “نظرية لوركا الشعرية”، ويحاول البرهنة على سر التألق والتجلي والتميز، بل التفرد في فضاءات الإبداع، وذلك بأدلة ووقائع حيَّة من لحم ودم ومجسَّدة وملموسة في الشعر والموسيقى والرقص ومصارعة الثيران وغيرها من فنون الإبداع. هذه المحاضرة التي ألقاها لوركا في الأرجنتين عام 1933، ثم في هافانا ترجمها وقدم لها الشاعر الفلسطيني أحمد يعقوب عن الإسبانية لتصدر أخيرا عن مؤسسة أروقة للنشر، لافتا إلى أنها بمثابة الملحمة الشعرية غير معروفة للوركا، ملحمة تاريخية رائعة في ثرائها الشعري واكتنازها لفانتازيا خرافية تنتقل من الدراما إلى التراجيديا إلى الكوميديا. ويختزل فيها روائع الإبداع الإنساني منذ ثور آشور إلى ثيران الأندلس، ومن خمار ميدوسا إلى راقصة الفلامنكو. وعند لوركا هنا لم تعد أساطير الإغريق والرومان والأديان مجرد مراجع يتكئ عليها، إنما يبعث من بعد موتها حياة أجمل وأكثر رونقا وتألقا. بالشكل الذي يمَكِّننا من اعتبار هذه المحاضرة أهم ما كتب عن تاريخ الإبداع المتميز في تاريخ الإبداع. قوة غامضة اللعب هنا لعب لا تألفه قواميس اللغة أو دفاتر الألسنيين، وقد أوضح يعقوب أنه «لعب لا علاقة له بالظاهر الفيزيائي لمعاني مفردة اللعب المحض، إنه لعب إبداعي روحي يتجلى في مظاهر متباينة ومختلفة.. ليس لعبا من أجل المتعة مثل لعبة الضوء على المياه، أو الخداع، أو ألعاب الكلام، أو النوايا، أو القدرة، أو لعبة فرصة الثروة الجيدة أو السيئة. إنه لعب بالمأساة، فهنا نجد مطربة تلعب بصوتها.. وراقصة فلامنكو تلعب بجسدها، ومصارع ثيران يلعب بحياته. وبيقينية متشككة أو شك يقيني، يحاول لوركا الكشف عن السر الحقيقي للابتكار والخلق الإبداعيين، ويسمي ذلك السر بـ”دويندي” (Duende)» . ولا يقدم لذلك تفسيرا دلاليا ولا لغويا بمفردات مرادفة، بل تبقى معاني الـ”دويندي” كامنة في سياق أسطوري، نفسي، أنثروبولوجي، جغرافي، جمالي، فلسفي، وجودي، ميتافيزيقي، في سياق الوعي الجمعي الإنساني وإدراكه للموت والحياة. فالأندلسيون، كل الأندلسيين، يتحدثون عن: “دويندي المقترن بمصارعة الثيران، وبرقصة الفلامنكو، وبالغناء الغجري، بحيث تتوحد هذه المجالات في عنصر أساسي، وهو أن المؤدي لهذه الألوان الفنية يقترب في أدائه من الموت في لحظة تجليه، بل يقترب من نهاية الوجود”. قدم لوركا شروحا وتفصيلات للـ”دويندي”، يستنبطها ويستنتجها من وقائع فنية تاريخية في نتاج الإبداع المتميز وغير المتميز. ويشدد على ضرورة عدم الالتباس بين الـ”دويندي” وربة الإلهام أو الوحي أو الملاك أو العفريت الديني أو الشيطان اللاهوتي، وكذلك يؤكد على ضرورة عدم المقارنة أو المقاربة بينها وبين الـ”دويندي”، لأن “دويندي” لوركا هو “قوة غامضة تسري في الدم”. وأشار يعقوب إلى أنه أبقى في الترجمة النص على صياغته، فكأن لوركا يكتبها للشعراء فقط! في لغة شاعرية متألقة ومنمقة من قاموسه الفانتازي المفعم بالإحساس السحري. وكأنه يشعر بالموت، فيقدم أروع ما في عالمه الوجودي. ليحيا في موته. فهو يتلاعب باللغة بـ”دويندي لوركَوي”. يقدم ويؤخر كما يشاء. ويطيل الجمل الاعتراضية ويقصرها كما يشاء، بل إنه يصوغها وكأنها جملة شعرية واحدة أو قصيدة مدورة، معطيا للتنقيط والترقيم معاني جديدة، ولا يضع إشارات الاستفهام حيث يجب وضعها، ربما ليقينيته المتفردة بالدويندي”. يقول لوركا في مستهل محاضرته محاولا أن يضع أيدينا على تعريف للـ”الدويندي”، “منذ عام 1918، حيث التحقت بمسكن مدريد الجامعي، حتى عام 1928 حيث هجرته وقد انتهت دراستي في الفلسفة والآداب، كنت قد استمعت في ذلك الصالون الممجوج، حيث كانت تتردد لتصحح انفلاتها على الشاطئ الفرنسي، العجوز الأرستقراطية الإسبانية، استمعت لأكثر من ألف محاضرة. برغباتٍ من هواء وشمس، كنت قد مللت كثيرا، إذ عند الخروج كنت أشعر بأنني مغطى برمادٍ خفيفٍ كاد يصل إلى نقطة التحول، إلى فلفل أسود للتهييج. لا. أنا لم أكن أرغب في أن تدخل الصالة، تلك الذبابة الكبيرة الباعثة على الملل، التي تلضم كل الرؤوس بخيط خفيف من الحلم، وتضع في عيون المستمعين مجموعات صغيرة جدا من وخزات الدبابيس. بشكل مبسط، وفق السجلات، إن في صوتي الشعري لا توجد أنوار خشبية، ولا لفات من نبات الشكران، ولا نعجات تصبح فجأة سكاكين سخرية، سأرى إن كنت قادرا على إعطائكم عِبرا بسيطة حول الروح المخفية لإسبانيا المألومة”. Thumbnail ويضيف “ما هو كائن في جلد الثور ‘ما في الجلد‘ الممتد بين أنهار الخوكر، والغواداليتي، وسيل، أوفيسويرغا. ‘الجلد‘ كثيرا ما يتكرر القول ‘هذا لديه الكثير من الدويندي‘. كان فنان الشعب الأندلسي الكبير مانويل توريس قد قال لمغنٍ كان يغني ‘لديك صوت جميل وتعرف المقامات وأطوار الغناء، لكنك لن تنجح؛ لأنك لا تملك دويندي‘. في الأندلس قاطبة، من صخرة خايين، إلى محارة قادش، يتحدث الناس بشكل دائم عن الـ‘دويندي‘، ولديهم القدرة على اكتشافه حين يصدر من الموهبة الفطرية الفعَّالة. المغني الرائع، الغجري إل ليبريخانو مبدع غناء الدبلة كان يقول: الأيام التي أغني فيها بـ‘دويندي‘ لن يكون باستطاعة أحد أن يتحداني”. ملحمة تاريخية رائعة في ثرائها الشعري ملحمة تاريخية رائعة في ثرائها الشعري ويتابع لوركا “الراقصة العجوز الغجرية لا مالينا هتفت يوما ما وهي تستمع لبرايلوسكي وهو يعزف مقطوعة لباخ ‘أُوليه! هذا لديه دويندي‘. وكانت تتململ مع غلوك، وبرامس، ومع داريوس ميلهاود. مانويل توريس الرجل الأكثر ثقافة، ثقافة تسري في الدم، ممن عرفت، قال، وهو يستمع إلى فايا نفسه في معزوفته ‘العريف يفقد ليلته‘ هذه الجملة الرائعة ‘كل من يمتلك أصوات غناء سوداء يمتلك الدويندي‘. ولا توجد حقيقة أكبر. هذه الأصوات السود هي اللغز، الجذور التي تنغرز في الوحل الذي نعرفه جميعا. ويجهله جميعنا، لكن من أين يصلنا ما هو الجوهر في الفن. أصوات سود، قال الرجل الأكثر شعبية في إسبانيا وتوافق مع غوته، الذي يصنع تعريفا للدويندي عند الحديث عن باغانيني قائلا: قوة غامضة يشعر بها الجميع ولا يفسرها أي فيلسوف”. ويؤكد لوركا “هكذا، إذن، الدويندي، هو قدرة وليس اشتغالا، وهو صراع وليس تفكيرا. أنا كنت قد سمعت عجوزا أستاذا في القيثارة يقول ‘الدويندي ليس موجودا في الحنجرة، الدويندي يرتفع من الداخل من أخمص القدمين‘؛ أي إنه ليس مسألة كفاءة، إنما نمط حياة معيش وحقيقي، أي من الدم، أي من ثقافة غابرة، من خلق بالأداء. هذه الـ‘قوة غامضة يحس بها الجميع ولا يفسرها أي فيلسوف‘ هي في المحصِّلة، روح سلاسل الجبال، إنها الدويندي ذاته الذي عانق قلب نيتشه، الذي بحث عنه بأشكاله الخارجية فوق جسر ريالتو، أو في موسيقى بيزيه، ولم يعثر عليه، ودون معرفة أن الدويندي الذي كان يطارده كان قد قفز من الألغاز الإغريقية إلى راقصات قادش، أو إلى صرخة ديونوسية مسفوحة بـ‘سيغيريا‘ سيلبيريو”. هكذا، إذن، لا يريد لوركا لأحد أن يلتبس عليه الدويندي بشيطان اللاهوت عن الشك، حيث لوثر، وبإحساس عربيد، رماه بجرة حبر في نورمبيرغ، ولا مع العفريت الكاثوليكي، المدمـِّر وقليل الذكاء، الذي يتنكر مثل كلبة ليدخل الأديرة، ولا مع القرد المتكلم الذي يحمله ترجمان سيرفانتس، في كوميديا الغيرة وأدغال الأندلس. لا، الدويندي الذي تحدث عنه، غامق، مقشعـِر، منحدر من غبطة شيطان سقراط تلك، رخام وملح حيث إنه مطعون بكرامته، حزته مخالب ذاك اليوم الذي تجرع فيه سم الشوكران. ويلفت لوركا إلى أن مجيء الدويندي يتطلب دائما تغييرا جذريا في كل الأنماط والأشكال للخطط القديمة، يعطي مشاعر نضارة غير معروفة أبدا، مع نوعية زهرة نبتت لتوها، من معجزة، تصل لتنتج حماسة قد تكون دينية تقريبا. ويقول “في كل الموسيقى العربية، الرقص، والغناء أو المراثي، فإن وصول الدويندي تتم تحيته بصيحات قوية: الله! الله! وهذا قريب جدا من أوليه! (!olè)، التي تقال عند مصارعة الثيران، من يدري ربما تكون الشيء نفسه، وفي جميع أغنيات جنوب إسبانيا فإن ظهور الدويندي يكون متبوعا بصيحات صادقة: يحيا الله! عمق إنساني، صراخ حنون للتواصل مع الله بالحواس الخمس، بفضل الدويندي الذي يهيِّج صوت الراقصة وجسدها، إنه تهرُّب حقيقي وشاعري من هذا العالم، تهرُّب نقي كالذي حققه الشاعر النادر في القرن السابع عشر بيدرو سوتو دي روخاس من خلال سبع حدائق، أو تهرب خوان كاليماكو من خلال نوبة بكاء وارتعاش. طبيعي، عندما يتحقق هذا التهرب، يشعر الجميع بآثاره: في البدء، يُرى مثل النمط الذي يهزم مادة فقيرة، والجاهل، فيه عدم معرفة المشاعر الأصيلة”. يعصر ليمونات الفجر يرى لوركا أن “كل الفنون قابلة للدويندي، لكن حيث يوجد مجال أكبر، كما هو طبيعي، يكون في الموسيقى، في الرقص وفي الشعر المحكي، كل ذلك يحتاج إلى جسد حي قادر على ترجمتها. لأنها أشكال تنولد وتموت بشكل مؤبد، وتطلق معالمها على دقة الوقت الحاضر. مرات عدة، فإن دويندي الموسيقي ينتقل إلى دويندي المؤدي، ومرات أخرى، عندما الموسيقي أو الشاعر لا يكونان متماثلين، فإن دويندي المؤدي، وهذا مهم، يخلق رائعة جديدة يكون لها في مظهرها، فقط، الشكل المشاع. هذا هو حال صاحبة الدويندي إليانور دوسي، التي بحثت عن أعمال فاشلة لتجعلها تنتصر، بفضل ما اخترعته هي، أو في حالة باغانيني، التي شرحها غوتا، الذي جعل من بذاءات سوقيين حقيقيين ألحانا عميقة تُسمع، أو حالة فتاة حلوة من بويرتو دي سانتا ماريا، التي رأيتها تغني وترقص الكوبلية الإيطالية المقززة “أو ماري” بإيقاعات، وسكتات وإيحاءات حولت سلة المهملات الإيطالية إلى هالة منتصبة لأفعى من ذهب. وما جرى، في الواقع، أنهم وجدوا شيئا ما جديدا لم تكن له علاقة بالشيء السابق، حيث وضعوا دما حيا وعلما فوق أجساد فارغة من التعبير”. مجيء الدويندي يتطلب دائما تغييرا جذريا في كل الأنماط والأشكال للخطط القديمة، ويعطي مشاعر نضارة غير معروفة أبدا ويتابع أن كل الفنون، وكذلك البلدان، لديها إمكانات الدويندي، والملاك والربة، هكذا مثل ألمانيا لديها، باستثناءات، ربات، وإيطاليا لديها ملاك بشكل دائم، كما أن إسبانيا تتحرك في كل الأزمان بدويندي، كبلد للموسيقى والرقص منذ القدم، حيث الدويندي يعصر ليمونات الفجر، وكبلد موت، كبلد مفتوح على الموت. في كل البلدان، فإن الموت هو النهاية، يصل فتغلق الستائر، في إسبانيا، لا. في إسبانيا تُرفع. أناس كثيرون يحيون هناك بين جدران، إلى اليوم الذي يموتون فيه فيخرجونهم إلى الشمس. ميت في إسبانيا هو حي أكثر منه ميتا في أي مكان من العالم: ملفه الشخصي يجرح بمثل حد شفرة حلاقة. الطرفة حول الموت وتأمله الصامت أمران مألوفان للإسبانيين. ويلاحظ أن الدويندي لا يأتي إذا لم يرَ احتمالات الموت، إذ لم يعرف أنه يجب الطواف حول البيت، إذا لم يكن هناك ضمانة من أنه لا بد من هز هذه الأغصان التي يحملها جميعنا، التي ليس لها، ولن يكون لها عزاء. بفكرة، بصوت موسيقي أو بإيماءة، يُحب الدويندي من البئر الحواف في صراع صريح مع المبدع. الملاك والربة يهربان مع آلة الكمان أو بالبوصلة أو بالفرجار، والدويندي يجرح، وفي علاج هذا الجرح، الذي لن يلتئم أبدا، يكون ما هو غير مألوف، وما هو مبتكر في عمل الإنسان. ويرى لوركا أن الحقيقة السحرية للقصيدة تتألف من أن تكون دائما مسكونة بالدويندي لتـُعمِّـد بماء غامق كل الذين ينظرون إليها، لأنه مع الدويندي يكون من الأسهل أن نحب أن نفهم، وبالتأكيد أن تكون محبوبا، أن تكون مفهوما، وهذا الصراع من أجل التعبير ومن أجل تواصل التعبير يكتسب أحيانا، في الشعر، سمات مميتة.
مشاركة :