يعيش العالم اليوم تحت وطأة فيروس سارس-كوف2 (المعروف بفيروس كورونا أو كوفيد-19)، الذي لم تشهد البشرية له مثيلاً في ذاكرتها الحيّة، وهو يُعد بمثابة عدو مشترك نخوض ضده حرباً ضروساً، الانتصار فيها يعني تضافر الجهود وتوحيد الصفّ كي نتمكّن من السيطرة عليه وتحجيم تأثيره في شتّى بقاع العالم. ورغم أننا اليوم بصدد مواجهة فيروس غير مرئي لا نزال نتعرف على خصائصه وطبيعته، غير أن تبنّي الرؤى والأفكار المختلفة ستكون بلا شك عاملاً حاسماً في دحضه، ومن هنا تبرز حاجتنا الملحّة إلى الاستفادة من الكفاءات والخبرات المتخصصة من جميع أنحاء العالم. وقد لمسنا بالفعل مستوى رائعاً من التعاون الاستثنائي بين كافة أطراف مجتمع الصحّة العالمي، حيث يتم تبادل البيانات والأفكار حول الخصائص الرئيسية لهذه الجائحة، كما يتم حالياً تطوير اللقاحات والأدوية المعالجة في العديد من المؤسسات الطبية المنتشرة في مختلف البلدان. علينا أن نواصل جهودنا والتفكير خارج الأطر التقليدية المعنية بتنفيذ ممارسات الصحّة العالمية وتطويرها، فأمامنا الكثير لنتعلمّه من الخطوط الأمامية للعمل الميداني في الدول منخفضة الدخل التي قطعت أشواطاً كبيرةً في محاربة الأمراض المعدية خلال السنوات الأخيرة. تتبلور رحلة مكافحة الأمراض في رصدها أولاً والسيطرة عليها ومن ثمّ القضاء عليها محلياً، وتتجلّى أبرز الأمثلة على ذلك في التقدم المُحرز ضمن الجهود المبذولة للقضاء على شلل الأطفال والملاريا والتخفيف من تأثير الأمراض المدارية المهملة القاتلة ومكافحة فيروس إيبولا. وقد ظهرت أهمية الخبرات والأفكار والأدوات المستخدمة في برامج مكافحة هذه الأمراض باعتبارها واحدةً من أكثر العناصر الأساسية بل الحيوية التي تساعدنا في مواجهة فيروس سارس-كوف 2. ولعلّ ما قد يثير الاندهاش هو أن هناك العديد من الدول النامية تبرز في وضعية أفضل، في بعض الجوانب، خلال مكافحة الجائحة الراهنة مقارنةً بالدول المتقدمة. فعلى الرغم من ضعف أنظمة رعايتها الصحية وافتقارها الشديد إلى المعدات والمواد الطبية واتساع رقعّة الفقراء والمهمشين بها واكتظاظ مدنها الكبرى الذي يجعل من تطبيق ممارسات التباعد الجسدي والاجتماعي أمراً شبه مستحيل، غير أن العديد من هذه الدول اعتاد على التعاون مع المنظّمات والمؤسسات الدولية في مكافحة الأمراض كما أنها اكتسبت خبرات واسعة وتمتلك بنية تحتية خاصة بتحصين مجتمعاتها، وهو ما يمكّنها من التأقلم سريعاً مع الأزمات الصحية الجديدة. ولكن في الوضع الراهن الذي يفرض تحديات ضخمة، سيكون من الصعب بل المستحيل تقريباً تطبيق الممارسات التباعد الاجتماعي وتحفيز الاقتصاد في العديد من هذه الدول النامية. تقدم المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، والتي أُنشئت في أعقاب تفشي فيروس إيبولا في غربي إفريقيا، مثالاً رائعاً حول ما يمكن إحرازه وتحقيقه من إنجازات عندما ندرك الحاجة إلى تعزيز وإضفاء الطابع المؤسسي على خبراتنا ومعرفتنا المحلية. وتضطلع هذه المراكز بدور حيوي في تنسيق التعاون عبر القارة السمراء ودعم الجهود المبذولة في التصدي لفيروس سارس-كوف 2 وتسليط الضوء على تأثيره في المناطق المنتشرة في كافة أنحاء العالم التي ينخفض فيها الإبلاغ عن حالات الإصابة. وتضرب مراكز عمليات الطوارئ، مثل تلك المعنية بمكافحة مرض شلل الأطفال، مثالاً مذهلاً في تفعيل آليات ناجعة تناسب كل منطقة على حدةٍ في الاستجابة للأزمات الصحّية وتنسيق الجهود، مروراً باختبار وتتبع مخالطي الحالات المصابة، ووصولاً إلى حشد طاقات العمل المجتمعي أثناء مواجهة التهديدات الصحية العامة. فهي تتيح للأفراد والمسؤولين من مختلف المؤسسات والقطاعات والمجموعات فرصة العمل بشكل تعاوني ومباشر لتبادل المعلومات والبيانات أولاً بأول إلى جانب تطوير خطط عمل مشتركة. وتتمتع دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تمتلك اقتصاداً متطوّراً وتُعد حلقة الوصل بين إفريقيا وآسيا، برؤية فريدة كما تضطلع بدور حيوي على خارطة المنطقة والعالم في هذا الشأن. وانطلاقاً من هذا الأساس، أُنشئ المعهد العالمي للقضاء على الأمراض المعدية (غلايد) في أبوظبي، حيث أُعلن عنه رسمياً في العام 2017 وتم تدشينه لاحقاً في نوفمبر 2019 بهدف تسريع وتيرة التقدم ودفع عجلة الفكر العالمي تجاه القضاء على الأمراض المعدية. وتُعد هذه المبادرة ثمرة جهود مبذولة على مدار 30 عاماً، وقد ترعرعت فكرتها من خلال التعاون بين المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، الوالد المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ والرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، بهدف المساهمة في القضاء على داء دودة غينيا (داء التنينات). وخلال الآونة الأخيرة، قام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، بتوسيع نطاق تركيز دولة الإمارات على القضاء على الأمراض المعدية والمميتة ليشمل العمى النهري وشلل الأطفال والملاريا. ويدعم المعهد العالمي للقضاء على الأمراض المعدية (غلايد) جهود الدور القيادي الذي تبذله دولة الإمارات في استئصال شلل الأطفال في باكستان، ويجري حالياً إعادة توظيف العديد من هذه البرامج والجهود في معركتنا ضد سارس-كوف 2. ويُعد معهد غلايد مؤسسة تساهم في ترسيخ مفهوم عولمة الصحّة الدولية، ويتمثّل هدفها في تسريع وتيرة التقدم المحرز في بلوغ الميل الأخير للقضاء على الأمراض، من خلال تطوير الإمكانات والقدرات المحلية والإقليمية وفي البلدان المتأثرة بالأمراض المزمنة، بغية إحداث تأثير إيجابي وفعّال. وختاماً، أتطلع إلى تأكيد قيمة المعهد العالمي للقضاء على الأمراض المعدية، بالتعاون مع الأطراف الفاعلة في قطاع الصحّة العالمي، وأهميته كمؤسسة تنشط بشكّل فعّال بل تتعاون مع أبطال خطوط الدفاع الأمامي في ميدان العمل وتكتسب منهم الخبرات العملية. وبينما يقترب العالم من استئصال فيروس شلل الأطفال ومرض دودة غينيا والقضاء على العديد من الأمراض الأخرى، فإننا تعلّمنا أن بلوغ الميل الأخير للقضاء على أي مرض هو أصعب مرحلة، إذ تستغرق وقتاً أطول وتكبدنا تكاليف أكبر بما يتجاوز توقعاتنا. ويصبح العالم بمأمن من الأمراض والأوبئة إذا ما تنوعت أفكارنا ووجهات نظرنا، ويعني ذلك أن تبنّي المزيد من الأصوات المختلفة في كافة بقاع الأرض يؤمّن صحّة الجميع أينما كانوا. ومعاً، سنكون دائماً في وضع أفضل.
مشاركة :