كلنا شاهدنا صورا وفيديوهات وقرأنا أخبارا عن الاحتلال الأميركي للعراق، هي صور وأخبار دمار طال البلاد التي صارت مرتعا للإرهابيين، لكن تبقى الآلاف من الصور والمقالات والفيديوهات قاصرة عن الدخول إلى خفايا الأحداث وانعكاساتها على الأفراد، وهذا ما تصدى له الفن والأدب في كشف ما لا ترصده الصحافة وناقلو الأخبار ألا وهو “المشاعر”. بعد أربع مجموعات قصصية أصدرها خلال اثنتي عشرة سنة، يجرّب الكاتب الأردني خالد سامح كتابة الرواية، بوصفها النوع السردي الذي صار مجالا أوسع للانخراط في البحث والتقصّي وتمثيل المشكلات السياسيّة والاجتماعيّة، وأخذ يحتل الصدارة في المشهد الأدبي، مجتذبا العديد من القصاصين والشعراء والنقاد إلى عالمه، نظرا إلى ازدياد حجم اهتمام القراء والناشرين والجوائز به. تدور أحداث رواية سامح الموسومة بـ”الهامش”، عقب الاحتلال الأميركي للعاصمة العراقية بغداد في التاسع من أبريل عام 2003، وتتواصل حتى العام 2006 عبر ثلاث حكايات تتعاقب زمنيا في ثلاث مدن هي عمّان والزرقاء الأردنيتين وبغداد. مصير متغير في رواية “الهامش”، الصادرة حديثا عن منشورات ضفاف في بيروت والاختلاف في الجزائر، يرصد خالد سامح تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق وما تبعه من فوضى وعنف عبثي وتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية، لم تقتصر على العراق وحده بل شملت المنطقة برمتها. إلاّ أن الكاتب يركز على تداعيات هذا الحدث على العراق، وانعكاسات تلك المرحلة التاريخية القاسية على الساحة الأردنية، خاصة مدينة عمّان التي شهدت وقتها لجوء الآلاف من العراقيين إليها، هربا من تعرض بلدهم إلى موجة عنف غير مسبوقة، وتسلل الآلاف من الإرهابيين إليه. وكان لكل واحد من هؤلاء اللاجئين حكاية تتضمن ما شهده من أهوال فيها الكثير من التفاصيل التي يعجز حتى الخيال عن تصورها، وتشكّل تجربة رهيبة ومادة لرواية بحد ذاتها. في الرواية يتداخل الهم الخاص بالعام من خلال علاقة تجمع بين شخصيتين هما الصحافي والمترجمة ويتداخل الهم الخاص بالعام في هذه الرواية من خلال علاقة تجمع بين شخصيتين هما حازم الصحافي والمترجم والناشط السياسي الأردني المنتمي إلى “الجبهة القومية لنصرة العراق”، والمترجمة العراقية الجميلة لهيب، الفارة من جحيم الإرهاب، والتي كانت تعمل في عهد النظام السابق مترجمة بوزارة الخارجية العراقية. وبعد أن فقدت لهيب وظيفتها وجدت نفسها من دون معيل لأن والديها كانا متوفيين، فلجأت إلى بيت أختها في بابل، لكن صهرها يرفض بقاءها في بيته بذريعة الخوف على أسرته من انتمائها السابق إلى حزب البعث، وعملها في الخارجية، فتضطر إلى العمل في المهنة نفسها مع الأميركيين، فتتعرض إلى تهديدات من المقاومة، ثم تُختطف من طرف جماعة متطرفة، وتُغتصب على يد أميرها، الذي يترك توقيعه على جسدها. وهنا تدخل حكاية لهيب في أكثر فصولها مأساوية وبشاعة، إذ يستغني الأميركيون عنها، فتتحول حياتها “إلى ما يشبه تراجيديا أسطورية من زمن الإغريق: الفتاة البريئة التي خالفت أوامر الآلهة وسارت مع الأشرار لأنهم كانوا ملاذها الإجباري، لم تتفهمها الآلهة أو تشفق عليها، أطلقت في طريقها وحوشا ضارية وأرواحا منتقمة من كل حدب وصوب، فتمنت لو مسختها إلى ضفدعة تتقافز على حواف دجلة المفروشة بالقاذورات، أو أنها حولتها إلى نخلة جافة وسط الصحراء اللاهبة، أو جعلت منها غولة خرساء هائمة في الطرقات.. كل تلك العقوبات الأسطورية كانت بالنسبة لها أرحم بكثير من اللعنة التي حلت عليها”. وتقرر المترجمة إثر ذلك الهروب إلى عمّان، وتقديم طلب لجوء إلى مكتب المفوضية العليا للاجئين فيها، لكن حياتها تسير على نحو مختلف تماما عمّا كانت تخطط له، وذلك بعد تعرفها إلى مستثمر عراقي ثري مقيم في الأردن جمع أمواله بطرق غير مشروعة، يستغل جمالها في علاقاته الاستثمارية المزعومة ويقدّمها هدية لأصدقائه، لكنها تستغل بدورها هذه الفرصة لتجمع معلومات عن أنشطته المشبوهة، وتبتزّه وتفرض عليه زواجا مؤقتا، وتنتزع منه شقة فخمة وعشرة ملايين دولار. التقاء وفراق رصد لتداعيات الاحتلال الأميركي للعراق وما تبعه من فوضى رصد لتداعيات الاحتلال الأميركي للعراق وما تبعه من فوضى تستخدم جسدها للانتقام من مغتصبيها والمتاجرين بها، مؤمنة بأن من يملك المال يملك السلطة. ثم تلتقي بحازم ليساعدها في افتتاح جاليري للفن التشكيلي في عمّان يعيد لها مكانتها الاجتماعية، وتنمو العلاقة بينهما شيئا فشيئا، من التعارف إلى الصداقة إلى الغرام وتعاطي الشراب والعلاقة الجسدية، وزيارة المرافق السياحية والاهتمامات الثقافية المشتركة، من دون أن تصل إلى الزواج. تصبح لهيب بالنسبة إلى حازم نافذة على الكثير من الحقائق الصاعقة وأسرار المدينة والمجتمع. لكن هذا الصحافي يعاني من مشاكل عويصة أيضا، في مقدمتها مناكفات رئيسه في العمل، ثم حساسيّته المفرطة وعدم القدرة على استيعاب الصدمات وتغيير القناعات، فينعكس كل ذلك تصدّعات في شخصيته، وتعاوده نوبات القلق والتوتّر والاكتئاب التي كان يعاني منها. وحين يراجع طبيبه النفسي يكرّر نصحه له بترك الهامش ويعود إلى ذاته، الأمر الذي لا يستطيع الالتزام به. وينتهي مصيره إلى فصله من العمل في تزامن مع ابتعاد لهيب عنه إلى غير رجعة. وإلى جانب حكايتي حازم ولهيب ثمة حكاية ثالثة ترتبط بهما هي حكاية الشخصية المثلية (جاسم/ جيسيكا)، موظف الاستقبال والعلاقات العامة في الجاليري الذي افتتحته لهيب. ومن خلال هذه الحكاية، أو في ظلالها يستحضر الروائي شخصية ديفيد ريكسون، محامي المنظمة البريطانية التي تُعنى بحقوق الإنسان والحرية الشخصية، من جهة، وبما تتعرّض له شريحة المثليين من قمع في العالم العربي من جهة ثانية. وقد رأى أحد النقاد أن ارتباط هذه الحكاية بالرواية أضعف من ارتباط الحكايتين الأخريين. ومن ناحية البنية السردية فقد رصد خالد سامح الأحداث التي تقوم عليها الرواية، وكشف خباياها بضمير المتكلم (الراوي العليم)، مستعينا بتقنيات سردية عديدة مثل تقطيع الزمن، واستعادة الصور والمشاهد (الفلاش باك)، والحوار الداخلي (المونولوج). يُذكر أن خالد سامح حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية، ويعمل صحافيا، ومن عناوين مجموعاته القصصية “نافذة هروب”، “نهايات مقترحة”، “ويبقى سرّا”، و”بين سطور المدينة”.
مشاركة :