تقدّم مجلة “الجديد” الثقافية اللندنية للمعتصمين في البيوت وجبة من ثمرات العقول والأرواح، وتتوجه في الوقت نفسه بالتحية إلى كل من آزرها بمواصلة الكتابة، والمغامرة الفكرية والجمالية التي بدأتها معهم قبل خمس سنوات ونيف، متطوّعين لحمل شعلة الكتابة الجديدة والمبتكرة والفكر النقدي الجريء. صدر في لندن العدد 65 (يونيو 2020) من مجلة “الجديد” الثقافية الشهرية بنسخة إلكترونية. وجاء العدد في ظل لحظة كونية عصيبة تجمعت فيها سحب متلبدة غطت سماء العالم، وجعلت من غد الإنسان يوما مديدا مجهولا. وإذا كان عدد المجلة المزدوج لشهري أبريل ومايو الماضيين قد كشف عن يوميات الكاتبات والكتّاب العرب في معتزلاتهم، وحمل عنوان “الكوكب الأسير”، فإن العدد الحالي يواصل، من خلال ملف بعنوان “الغرافيتي يحتل مدن العالم” (وهو فن الرسم والكتابة على الجدران)، رصد الظواهر والأفكار والتصورات المرتبطة بجائحة كورونا والأحوال المحيطة بها، لدى الكاتبات والكتّاب العرب، إلى جانب تقصّيه لانعكاس الجائحة في فنون الشارع المتمثلة في الجداريات الفنية، ليس في العالم العربي وحده، وإنما في عدد من عواصم الشرق والغرب على حدّ سواء، فالوباء يزحف في كل مكان موحدا بين الضحايا ومساويا في الأقدار، والتعبير في مواجهته لا يختلف عن ذلك. في افتتاحية العدد كتب رئيس التحرير الشاعر نوري الجراح كلمة بعنوان “رسائل إلى كائنات المستقبل: في السؤال عن صباح يوم غد” طرح فيها مجموعة أسئلة عدّها قطرات في محيط من الأسئلة التي أخذت تطرق أذهاننا ومخيلاتنا، بينما نحن في مواجهة تسونامي الوباء، وقد تحوّل إلى طوفان حمل كل كائن إلى كهف منها. الغرافيتي فن يعكس أشد الهواجس الآنيّة بصورة ساخرة، مُتحررا من ضرورة الصوابيّة السياسيّة ومنتقدا السلوك البشري من هذه الأسئلة كما يرى الجراح “هل يجوز لنا منذ الآن أن نطرح السؤال عن الما بعد.. ما بعد كورونا، بينما نحن في قلب الجائحة الكبرى التي عصفت بكوكبنا؟”، “هل نحن في قلب عملية تغيير قسرية كبرى فرضتها وتفرضها علينا الجائحة؟ تغيير في علاقتنا بأنفسنا؟ تغيير في علاقتنا بالآخر.. الآخر قريبا وبعيدا؟”، و”هل يعقل أن تتحول الجائحة إلى لحظة تساوي بين الضحية والجلاد في مجتمعات غابت عنها العدالة وسلبت فيها الحريات، وبات الخلل معها لصالح المحتل والدكتاتور والفاسد؟”. وقد شكّلت أغلب مواد العدد استجابات لهذه الأسئلة، بعضها أخذ شكل المقالة، وبعضها شكل الخاطرة الأدبية أو القصيدة الشعرية، وأحيانا شكل اليوميات وغيرها، كلها يمّم جهة التأملات الفلسفية. الغرافيتي يحتل مدن العالم عرض مشوّق لبانكسي عرض مشوّق لبانكسي يكتب عمّار المأمون في ملف “الغرافيتي يحتل مدن العالم” مقالا بعنوان “لم تبق في الشوارع إلا جدران الغرافيتي: لا أحد هنا ولا هناك”، يقول فيه “شوارع العالم الفارغة والحجر الصحيّ جعلانا جميعا كبشر نعيد النظر في أولوياتنا، سواء على المستوى الشخصيّ والحميمي أو ذاك العلني والسياسيّ، الشوارع والفضاءات العامة التي كانت مساحات صراع، أصبحت خالية بسبب الخوف من العدوى والإجراءات الاستثنائية التي فرضتها الحكومات على مواطنيها حفاظا على حياتهم وصحتهم، وشكّل منع التجمّع والتلامس أزمة لا ندري إلى الآن درجة جديّتها وأثرها”. ويصف المأمون الغرافيتي بأنه يعكس أشد الهواجس الآنيّة بصورة ساخرة، مُتحررا من ضرورة الصوابيّة السياسيّة، ومنتقدا السلوك البشري في ظل فقدان الناس لملكيّة الفضاء العام، وتحول مساحات التجمع إلى ما يشبه مساحات القتال. ويرى المأمون أن الوباء الحاليّ شكّل تحديا للثقافة الشعبيّة والمتخيلات التي تقدمها عن البطولة، فالشخصيات التقليدية كسوبر مان وسبايدرمان وغيرهما من الأبطال الذين يواجهون الشرّ والأخطار التي تهدد مصير البشرية يبدون شاحبين، يشبهوننا، قدراتهم “الخارقة” لا تحمل أيّ جدوى، بل يكتفون مثلنا بوضع الكمامات، والتجول في الشوارع الفارغة، فالخطر هذه المرّة لا يحتاجُ قدرة على الطيران أو تسلق الأبنيّة، بل يتطلب هدوءا وتركيزا عاليين، وتجارب مخبرية طويلة كي ينجح تصنيع الترياق. عدد ممتاز من مجلة الجديد عدد ممتاز من مجلة الجديد ويخلص الروائي والكاتب عبدالله مكسور في مقاله “احتلال الشارع.. الغرافيتي يتمرد على العزلة” إلى أن “التأملات التي يمكن استخلاصها من تجارب الغرافيتي المختلفة تبني واقعا موازيا لأرقام الضحايا والإصابات والمتعافين معا، خطٌّ بياني لا يمكن ضبطُهُ إلا بجمع كل اللوحات في كلِّ بلدٍ على حدة والعمل على تحليلها لنقرأ معا وجهة النظر الغرافيتية بكلِّ جغرافية بخصوصيَّتِها وعموميَّتِها في وقت واحد، فالخصوصية تنبعُ من كونِ لوحة الغرافيتي انشغالا بالمحليِّ في خطوتها الأولى، لكنَّ ما يحدث مثلا في ممرات البيت الأبيض الأميركي أو القصر الرئاسي الصيني قد نجد صداهُ على حائطٍ قديم في مدينة أفريقية أو أوروبية أو عربية. لوحاتٌ امتلكَ أصحابها الجرأة التامة للخروج إلى الفضاء وإعادة رسم مشهد الحياة التي حاصرها كورونا، فكانت لوحات ثابتة في واقعٍ متحرِّك يتلمَّسُ الناجونَ فيه مواطئَ أقدامهم”. ويبيّن الكاتب مخلص الصغير، في مقاله “الجدران تتكلم: الغرافيتي ينازل كورونا في الشوارع”، أن ما يمكن أن نسميه “غرافيتي كورونا” يختلف عن التجارب السابقة في فنون الشارع. فإبّان الثورات أو الأزمات، وحتى في الأيام التي نسميها “عادية”، يكون ثمة عابرون ومارة هم الذين يشكلون جمهور هذا الفن، وهم “المتلقّي المتوقع” والواقعي. أما في زمن كورونا، فقد أبدع فنان الغرافيتي عمله دون أن يتوقع متلقيا حاضرا للتفاعل معه. بل هو يعلم أن المتلقي غائب أو مغيّب عن فضاء التفاعل الجمالي. لنقل إنه يقدم عملا لمن يمكن أن نسميه “اللامتلقي”. وهنا، يصير الغرافيتي موضوع هذا المقال، أشد تحررا، وهو يتخلّص من رقابة المؤسسة، كما لا يخضع لانتظارات المتلقي وتوقعاته. ضم العدد، ضمن ملف “قصائد البيت” تجارب شعرية لزاهر الغافري “صنّاع الأعالي”، سامر أبوهواش “غرفة مكتظة بمقعد واحد”، عبده وازن “ذئب كورونا”، ومها العتوم “كلامي المسكون بالغرباء”. وقد أشار المحرر في تقديمه للملف “يبدو أن البيت سيستعيد مكانته الكبيرة في الشعر كما في الخطابات الفكرية والأدبية في كل الثقافات، فهو الملجأ الأول والأخير للهاربين من طوفان الوباء. تصور لعالم جديد بعد كورونا تصور لعالم جديد بعد كورونا يكرر عبده وازن في قصيدته عنوانا فرعيا لها هو “اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020، بل قبله منذ شهرين وأكثر أو بعده”، شاحنا إياها بنبرة غضب ضد العالم، مشيرا إلى سقوط قناعه (قاصدا وجهه)، ونبوءاته المزيفة، وفردوسه المصطنع الذي رسمه لنا، وأكاذيبه التي أدمنها علانية، وأحلامه التي بلغت أقصى الكواكب، وأوهامه اللامعة في ليلنا، ومنددا بما نسميه العالم الأول، وترسانته النووية وثورته التكنولوجية الهائلة، وأوهامه التي أغرى بها البشر، وعولمته المتوهمة، ومختبراته السرية، واختراعاته الفائقة الخيال، والذكاء الاصطناعي، وما يسميه سباق التسلح. من مقالات العدد نقرأ “غابة السرد والعودة إلى الذات” لأحمد شحيمط، “الذات والآخر في النص النسوي” لنهلة راحيل، “الخوف من الحرية” لنورالدين قدور رافع، “الولادة المدنية للإنسان: المواطن والمواطنة بين أرسطو وجان جاك روسو” للشهيد العلوي مولاي المهدي، “حذار التنمر: تحدّي العزل الكوروني بالاتصال الروحي مع الآخر” لسمية عزام، و”ما بعد كورونا” لعدنان ياسين. كما نقرأ، في زاوية أصوات، مقالا لسعيد خطيبي بعنوان “إنسان ما بعد كورونا: في شعريّة الأفواه المكممة”. وفي باب فنون كتب كل من الشاعر والناقد التشكيلي فاروق يوسف عن تجارب ثلاثة رسامين من المغرب بعنوان “المسافر في بريّته والمقيم في مرآته والمغرم بإيقاعاته”، والناقد شرف الدين ماجدولين عن الفن المعاصر وانزياحات الأزمة الراهنة. أما في باب القص فقد نشر العدد قصتين، الأولى “حديث الغياب” لجمعة بوكليب، والثانية “الرجل الذي يصفّق” لحجّاج أدول. قراءات نقدية فن ثائر فن ثائر في العدد أيضا قراءات نقدية في أعمال إبداعية وعروض لكتب جديدة، منها قراءة ناهد راحيل في ديوان “المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت” للشاعرة سارة عابدين، وقراءة هيثم حسين في رواية “رحالة” للبولندية أولغا توكارتشوك الحائزة على جائزة نوبل للآداب سنة 2018، وعرض كاتب هذه السطور لكتاب الناقد محمد صابر عبيد “جماليّات الخطاب السيَري”، وهو موسوعة نقديّة في أربعة أجزاء تسبر غور طبقات نصوص السيرة وتحوّلاتها. وتضمن العدد حوارين في الأدب والنقد، الأول مع الكاتب القصصي المصري أحمد الخميسي، أجراه مصطفى عبيد، والثاني مع الناقدة والكاتبة العُمانية عزيزة الطائي، أجرته يسرى أركيلة. ويقدم الحواران، كل في حيزه وانطلاقا من شخصية صاحبه، معرفة بالشخصية وإبداعاتها وجهودها النقدية وأفكارها ومواقفها وتطلعاتها. وخصص العدد باب اليوميات للشاعر والناقد عبدالرحمن بسيسو، سفير فلسطين في سلوفاكيا، يسرد فيها تأملاته عند نهر الدانوب تحت عنوان “آخَري وأنا فِي برْهة عدم”، ويقف فيها على مواجهة العالم لجائحة كورونا، متسائلا “هل يمكن للعلم البشري الخالص أن يكون إنسانيا، عن حق، فيوقف نفسه، وكل منتسبيه، أمام المرايا، ليشرع وإياهم في استخلاص دروس وعبر وخلاصات وجودية إنسانية تستجيب لنداءات الوجود في مواجهة اجتياحات التوحش البشري والعدم؟!”. أما في باب رسائل ثقافية، فقد نشر العدد رسالة من باريس بقلم الكاتب أبوبكر العيادي، حملت عنوان “فلاسفة الغرب في مواجهة الوباء: هل نحن اليوم أمام عالم معلَّق، أم عالم محطَّم، أم عالم متحوّل؟”، ورسالة من نيكاراغوا بقلم الكاتبة غدير أبوسنينة عنونتها بـ”أساطير معاصرة.. حرب الكينا والكورونا في نيكاراغوا”. جدران الغرافيتي في زمن كورونا جدران الغرافيتي في زمن كورونا يختم مؤسس المجلة وناشرها الدكتور هيثم الزبيدي العدد بمقال عنوانه “تجمعهم القهوة ويفرقهم فيسبوك: فرصة للتقارب الاجتماعي”، يؤكد فيه أننا “نعاني هذه الأيام من “التباعد الاجتماعي”، وصار لزاما على الجميع الإبقاء على مسافة من الآخرين. كورونا فرض واقعا اجتماعيا جديدا. ثمة إجماع بأن هذا الواقع مزعج وأنه لن يدوم. هناك حركات احتجاج ضده وهناك ما يكفي من التمرد على السلطات التي تسعى لفرضه. الإنسان، الكائن الاجتماعي، يريد أن ينجو بأهم إنجاز حققه على مدى العصور: المجتمعات”. ورغم أن العمل عن بعد، والاستغناء عن المكاتب وعن وظائف بمنظومة عمل أساسها التطبيقات الإلكترونية مفيد، فإنه لا يغني، في رأيه، “عن الجلوس سوية والعمل سوية والمشاركة الوجدانية سوية. هذا التفتت الإنساني غير مقبول. نحن نضيّع أجمل ما أنجزناه خلال عشرات الآلاف من السنين: أن نأنس لبعض وأن نتفاهم”. لعل من الصحيح أن “التباعد الاجتماعي” الإلزامي فرصة لإعادة النظر في “تباعدنا الاجتماعي” الاختياري، وأن “العالم الافتراضي جميل وممتع وباعث على الكسل. لكننا كائنات اجتماعية نكتسب قيمتنا وقوّتنا من التقارب مع الآخرين. نحتاج إلى التقارب من جديد وإعادة تعريف كنه العلاقة البشرية مع الآخر”. وختمها قائلا “التباعد الاجتماعي” الإلزامي لعله فرصة لإعادة النظر في “تباعدنا الاجتماعي” الاختياري. العالم الافتراضي جميل وممتع وباعث على الكسل. لكننا كائنات اجتماعية نكتسب قيمتنا وقوّتنا من التقارب مع الآخرين. نحتاج إلى التقارب من جديد وإعادة تعريف كنه العلاقة البشرية مع الآخر. أخيرا، تجدر الإشارة إلى أن “الجديد” ستواصل صدورها في صيغتها الإلكترونية، وستكون متوفرة باستمرار في فايل Pdf، على موقعها الإلكتروني، وستعود إلى الصدور الورقي مع انحسار الوباء وعودة المطابع إلى العمل.
مشاركة :