تلقي الاحتجاجات الأميركية ضد العنصرية واستعمال العنف بظلالها على دول المنطقة العربية، وفي خضم التساؤلات عن مصير الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، وجدت المعارضة المصرية في الضغوط المسلطة على ساكن البيت الأبيض فرصة سانحة لإضعاف موقف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي تصوره كحليف قوي لواشنطن. تتجه أنظار الكثير من الدول إلى ما يجري في الولايات المتحدة من تظاهرات واحتجاجات وتراشقات وتجاذبات، وتلمس النتائج التي ستتمخض عنها، وهل ستصب في صالح أم ضد الرئيس دونالد ترامب؟ وما تنطوي عليه من انعكاسات تتجاوز حدود الداخل الأميركي وتفاصيله المتعددة، وتأتي أهمية المعركة مما تحمله من مكونات سياسية عابرة للحدود. أصبح هناك ما يعرف بأنصار الرئيس ترامب وخصومه في منطقة الشرق الأوسط، وتبدو المسألة أشد وضوحا في القاهرة، حيث يتصور البعض أنه أحد أهم حلفاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، اتساقا مع الفرحة العارمة التي انتابت أنصاره عندما تمكن المرشح الجمهوري من التفوق قبل أربعة أعوام على غريمته هيلاري كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي، وحليفة الرئيس السابق باراك أوباما في دعم الثورات والانتفاضات التي عمت المنطقة العربية منذ تسع سنوات، وأسهما معا في صعود جماعة الإخوان بمصر. تحتدم المعركة في الولايات المتحدة وتتصاعد معالمها حاملة معها أبعادا ودوافع وخلفيات لا علاقة لها بمنطقة الشرق الأوسط، مع ذلك أرخت بظلالها على بعض دولها، فخصوم ترامب ومن تضرروا من وصوله إلى البيت الأبيض ينتابهم شعور جارف بأن نهايته السياسية أوشكت، ما يرفع الغطاء عن القيادات التي تدثرت به، وفي مقدمتهم الرئيس السيسي. بدأ جانب من المعركة الأميركية ينتقل إلى القاهرة، وسن خصوم الرئيس المصري سكاكينهم السياسية للنيل منه، على اعتبار أن ترامب سوف يذهب قبل خمود رياح التظاهرات الأميركية، وحتى لو وصل إلى السباق الانتخابي في نوفمبر المقبل قد ينهار في مواجهة المرشح الديمقراطي جو بايدن، بصورة يمكن أن تفقد السيسي أحد أهم الأعمدة التي استند عليها. صحيح أن الرئيس المصري الذي لعب دورا في رحيل حكم الإخوان في غضون عام واحد من وجودهم في السلطة، استفاد من سقوط كلينتون، لكن ليس من المؤكد أنه حصد ثمارا كثيرة من وراء نجاح ترامب، فقد تجمد دعم الديمقراطيين للتيار الإسلامي في مصر، وأجهضت خططهم الطموحة لترسيم معالم المنطقة على قاعدة صعود رموزه بكثافة، مع ذلك لم يقدم ترامب الكثير الملموس للسيسي في هذه المعادلة، لأن التعاطف مع الإسلاميين لم ينته تماما. المعارضة المصرية على الخط القاهرة تدرك أن استهدافها لن يتوقف، لذلك لم ترهن وجودها بإدارة ترامب ونجحت في توثيق علاقاتها الدولية تسود فرحة كبيرة لدى مناوئي الرئيس المصري، وتجدد الأمل بشأن عودة شخصيات معارضة للنشاط السياسي في الشارع. وكتب أحدهم على صفحته قبل يومين، يبشر بأن رحيل ترامب يمثل مقدمة لرحيل النظام المصري، وصوّر المشهد على أن الإخوان ومن تضرروا من السيسي عائدون، والقوى السياسية التي قبضت على زمام السلطة إلى زوال. تنطوي هذه الإشارة على مضامين مختلفة، أبرزها الإيحاء بأن النظام المصري حصد مكاسب ضخمة من وراء إدارة ترامب، وصمد بموجب المساعدات السياسية والاقتصادية والعسكرية السخية التي قدمتها واشنطن للقاهرة، وكان من الممكن أن يتعرض لمشكلات جسيمة لو لم يكن ترامب في صدارة السلطة في الولايات المتحدة. ينطلق هذا الاستنتاج من أن حاكم البيت الأبيض مخول بصلاحيات مطلقة، ليس لها ضوابط تحكمها، ويتصرف وفقا لرغباته وأهوائه. نعم ترامب يوصف أحيانا بـ”الشعبوي والمتهور والمتغطرس”، لكن لا يتصرف بعيدا عن القانون، فالمؤسسات التي تتحكم في مفاصل القرارات، مثل الكونغرس، بغرفتيه النواب والشيوخ، موزعة بصورة شبه متساوية بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهناك جماعات ضغط ومصالح لها النسبة ذاتها تقريبا، ناهيك عن الإدارات البيروقراطية، مثل البنتاغون، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي. كل المساعدات التي قدمتها إدارة ترامب لمصر خلال الأعوام الأربعة الماضية خضعت للقوانين الأميركية، وأخذت مساراتها الطبيعية دون خروقات فاضحة، هذه فرضية يصعب التشكيك فيها، وقد تلعب ميول الرئيس دورا حيويا في لحظة معينة، لكنها لا تستطيع كسر القيود المفروضة على حركته في التوجهات العامة وما يتمخض عنها من سياسات فعلية. يمكن القول إن الكثير من إجراءات ترامب لم تكن منسجمة مع تقديرات السيسي. خذ مثلا الموقف من القضية الفلسطينية، لم يصل فيها التفاهم إلى المستوى الأدنى، وطرح ترامب مبادرة “صفقة القرن” بما لا يتناسب مع تطلعات القاهرة، وسببت إحراجا كبيرا للسيسي، فلم يتمكن من مناطحتها علنا واكتفى بمحاولة تفشيلها سياسيا، ورفض التجاوب مع ضغوط وإغراءات ترامب، وتمسك بثوابت الموقف المصري، وحافظ على ما يوصف بـ”شعرة معاوية”، كي لا تنهار العلاقات المشتركة وتأخذ مسارا صداميا. يمكن التدليل أيضا على التباعد النسبي بتعثر المساعدات العسكرية واستمرار تخفيضها إلى ما بعد رحيل إدارة أوباما، والإفراج عنها عقب مضي حوالي عامين، كذلك صفقات الأسلحة لم تعد حتى الآن إلى طبيعتها، ولا تزال خاضعة لرزمة من الضوابط دفعت القاهرة إلى الاستعانة بأسلحة من دول، مثل: روسيا والصين وألمانيا وإيطاليا وفرنسا، وعدم رهن تسليح الجيش المصري بإرادة واشنطن فقط، الأمر الذي خلق توترات بين الجانبين لم تعد خافية، بسبب نجاح القاهرة في عقد صفقات عسكرية نوعية مع موسكو وبكين. تباعد السياسات نأتي إلى الموقف من الإخوان في مصر، وهي القضية التي تحتل صدارة خطاب المعارضة، فنجد أن الحملات الأميركية لم تتوقف عن توجيه انتقادات حادة للقاهرة في ملف الحريات وحقوق الإنسان ومحاكمات قيادات الإخوان، ربما لم يظهر ذلك في خطاب ترامب مباشرة، لكن لم يتخذ من الإجراءات ما يكفل تحجيم تحركات الجماعة في الولايات المتحدة أو يحد من تصرفات المناصرين لها. لم يضعها ترامب على لائحة التنظيمات الإرهابية، بل تتمتع قياداتها وكوادرها برعاية بعض المؤسسات الأميركية، بمعنى أن ثمة كفالة للإخوان مستمرة حتى الآن، قد يكون ذلك في إطار أدوات الضغط أو عدم الاطمئنان تماما للقاهرة، أو غيرها من الحسابات الخفية. ظل الموقف الأميركي من الحرب على الإرهاب في عهد ترامب ملتبسا، وهي الزاوية التي كان السيسي يعول عليها، من حيث تبني رؤية شاملة لمكافحته، لكن استمرت انتقائية واشنطن السابقة على حالها، لم تدخل تغيرات واضحة على المنهج الأميركي، وحاربت مصر بضراوة الإرهابيين في سيناء، وعجزت عن الحصول على معدات تقنية من إدارة ترامب، وبقيت المساعدة في هذا المجال محدودة، أو أقل من التوقعات الرسمية. خاضت مصر معركتها ضد التكفيريين، ولم تجد تحذيراتها من مخاطر تغولهم في المحيط الإقليمي آذانا صاغية في واشنطن، ومضت الأخيرة على نهجها المتذبذب في التعامل مع المتطرفين عموما، واختارت الحفاظ على التفرقة الغربية العرجاء بين متشددين ومعتدلين، وهي المساحة الرمادية التي وفرت لواشنطن فرصة للمراوغة، حسب المصالح التي يخدمها الاقتراب والابتعاد. ظهرت معالم الغموض بوضوح في ليبيا، وهي الفناء الخلفي الهام للأمن المصري، والذي يحفل بجيوش من الإرهابيين والمتشددين والمرتزقة، ولم يُقدم ترامب على تبني تصورات تنسجم مع القاهرة في التعامل مع هؤلاء، حتى التفاهمات التي ظهرت منذ نحو عامين والانحياز إلى قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، اقتصرا على الخطاب السياسي دون أن يتبلورا في شكل تحركات عملية تعزز موقفه ضد المتطرفين. بدت تحركات إدارة ترامب في هذا الملف منسجمة مع الكثير من الخطوات التي قام بها أوباما، ولم تظهر فروق كبيرة بين الجمهوريين والديمقراطيين على هذا المستوى، وقام ترامب بتوظيف تركيا في علاقتها المتينة مع الجماعات الإرهابية، ولم يتخذ موقفا حاسما من قطر التي قدمت دول الرباعي العربي (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) أدلة دامغة تثبت تورطها في دعم واحتضان متطرفين على مستوى العالم، وحتى الموقف من إيران لم ينسجم مع طموحات حلفائه في منطقة الخليج. بات النزول إلى النهر مرتين عملية مستحيلة بات النزول إلى النهر مرتين عملية مستحيلة تقتنع القاهرة بأن تركيا حصلت على ضوء أخضر من واشنطن مكنها من التدخل العسكري في ليبيا، ورعاية التنظيمات الإرهابية هناك، ما يؤكد وجود مصالح متبادلة في هذا الملف، ويلغي فكرة الموقف الثابت من المتشددين، ويضعها في سياق التوظيف الأميركي، بما يعيد تكرار أداء إدارة أوباما في التعاطي مع هذا الملف بطريقة أقل فجاجة. وتشير المحصلة النهائية إلى خرافة الدعم اللامحدود الذي قدمته إدارة ترامب للقاهرة، وتؤكد أنها لم تكن سندا قويا للرئيس السيسي في معاركه المركزية، ورحيله أو بقاؤه لن يغيّرا كثيرا في توجهات النظام المصري، الذي أصبح أشد تماسكا مما كان عليه عند وصول ترامب إلى السلطة، حيث عبرت القاهرة الشرنقة السياسية التي كادت تضيق على أنفاسها، وأعادت ترتيب أوراقها الإقليمية والدولية، وتمكنت من صياغة توازنات حافظت على تماسك الدولة، وقفزت بها إلى درجة عالية من الاستقرار الأمني. يدرك النظام المصري أن استهدافه لن يتوقف، لذلك لم يرهن وجوده بإدارة ترامب أو غيره، ونجح في توثيق علاقاته بدول في الشرق والغرب، وأوجد له حلفاء على قاعدة المنافع المشتركة، ولم يضع كل بيضه في سلة ترامب، وأقام حساباته على أنه يمكن أن يغادر البيت الأبيض مبكرا، واستوعب ملامح التوتر التي أحاطت به وجعلته يتخلى عن الكثير من التوجهات التي أعلن عنها سلفا، لذلك فرحيل ترامب ستكون تداعياته محدودة على القاهرة. من بدأوا يقيمون الأفراح من المعارضة المصرية، ومن شرعوا في الندب والحزن من مؤيدي النظام الحاكم، على صفحاتهم الخاصة، تعاملوا مع ما يجري في الولايات المتحدة على أنه طي لصفحة وعودة لأخرى ماضوية، وتجاهلوا ما حصل من تحولات في بنية النظام الدولي، ولم يلتفتوا إلى حجم التغير في الداخل المصري، وتمكن النظام من استيعاب دروس الماضي، وتحاشى أخطاء الأنظمة السابقة في رهن مصيره بإدارة أميركية معينة تملك مئة في المئة من أوراق اللعب في المنطقة، وتناسوا أن البيئة المحلية حدثت بها تطورات قوضت الدور الفاعل للقوى السياسية المعارضة، وقدرة الجهات الخارجية على دعمها. إذا رحل الرئيس الجمهوري وجاء رئيس ديمقراطي، سوف يكون معبأ بأجندة داخلية مزدحمة بالقضايا، فخروج ترامب من البيت الأبيض لن يكون سهلا، ومرجح أن يترك خلفه جملة من التحديات التي تجعل من البيت الأميركي أولوية قصوى تتراجع أمامها تصفية الحسابات مع نظام السيسي أو غيره، فقد جاء صعود أوباما في مرحلة فارقة، كانت فيها غالبية الأوراق غائمة، ومع حدوث فرز في كثير من القضايا بات النزول إلى النهر مرتين عملية مستحيلة.
مشاركة :