لا شك أن تناول الأحداث الجارية يمثل أحد المعضلات التي تواجه الفنانين حول العالم، وربما ينتظر البعض منهم أن تمرّ أزمة كورونا حتى يكونوا مهيّئين تماما لرؤية أشمل وأوضح. ولكن هناك آخرون يؤمنون كذلك بأن الفن لا بد أن يكون مواكبا للأحداث بل ودافعا لها في الكثير من الأحيان. حاول العديد من الفنانين حول العالم التعبير عن أزمة كورونا الراهنة بكل الوسائل الإبداعية، ولا يختلف الفنانون العرب عن غيرهم من فناني العالم، إذ خرجت علينا خلال الآونة الأخيرة العديد من التجارب العربية المُعبّرة عن أزمة كورونا ومشاعر الوحدة والعزلة التي تصاحبها. ومن بين أبرز هذه التجارب تأتي تجربة الفنان العراقي سيروان باران، الذي واكب بأعماله أزمة كورونا منذ تفجّرها في مدينة ووهان الصينية وراح يُعبّر عن تلك الجائحة في رسومات حرص على مشاركتها مع متابعيه على صفحته الشخصية في فيسبوك. الأعمال التي نشرها سيروان باران تضمّنت بالطبع العديد من المفردات المرتبطة بهذا الوباء وعناصره الدالة، ككمّامات الوجه والأقنعة، وغيرها من المفردات الأخرى التي صارت خلال أشهر قليلة أحد مظاهر الحياة على هذا الكوكب. وجوه حزينة وساهمة تغطّي الكمّامة الطبية معظم ملامحها، لا نتبيّن من هذه الوجوه الساهمة سوى العينين اللتين تشيان بالتيه، في حين يوظّف الفنان اسم الوباء بالحروف اللاتينية في الخلفية. تفرض العلامات والخطوط السريعة هنا أثرا متوترا على مُجمل التكوين. لوحات أخرى تسلّط الضوء على الحركة التائهة للأشخاص، وثمّة علامات ودلالات تظهر وتختفي بين لوحة وأخرى. في إحدى هذه اللوحات تشتبك مجموعة من الأجساد المتوشّحة بأقمشة وكمّامات للوجه، في أجواء يلفها القلق والتوتر. يبدو المشهد في لوحات باران مضطربا، كأنه يرسم ملامح قاتمة لعالم جديد تتشكّل مفرداته سريعا أمام أعيننا، عالم مختلف قد يصبح فيه التباعد الاجتماعي قدرا حتميا، ولعلّ هذا الأمر هو أكثر ما يثير هواجسنا جميعا. تتّسق هذه المعالجات التي قدّمها باران تأثرا بوباء كورونا مع طبيعة تجربته التصويرية التي تزخر بالعديد من المضامين والموضوعات المرتبطة بأحداث أليمة عايشها هو ورآها رؤية العين، وهي أحداث ووقائع ما زال يعبّر عنها وعن وجعها حتى اليوم. مشاهد صادمة عن ويلات الحرب العراقية مشاهد صادمة عن ويلات الحرب العراقية تتميّز أعمال سيروان باران على نحو عام بحالة لونية متوتّرة تفرضها ضربات الفرشاة السريعة على سطح العمل. هكذا يعالج الفنان خلفيات أعماله تاركا لنا براحها الممتدّ إلى ما لا نهاية كمساحة عامرة بالعديد من التأويلات. الفراغ هنا ليس حياديا، بل يعكس هو الآخر حالة من الصراع اللوني بين المساحة والخط، أو بين اللون الصريح والآخر الضبابي. في تجربته الأخيرة التي عرضها في بيروت مطلع هذا العام تحت عنوان “جمال قاسٍ” والتي خصّصها للتعبير عن معاناة العراقيين تحت وطأة الحكم الاستبدادي، ثم وطأة الاحتلال الأميركي في ما بعد. في هذه الأعمال نستطيع أن نلمح مشاعر القهر والألم بين هذه العلاقات التي شكّلها الفنان عن طريق الأجساد البشرية وتدافعها الواهن. في هذه اللوحات ذات القطع الكبير، نراه وقد وضع الأشخاص داخل المشهد في ترتيب أفقي ورأسي، وآخر عشوائي، في تلاحم مُتعمّد بين الأجساد، التي لا نكاد نميّز أيا منها عن الآخر، كأنما تحوّلت في اللوحة إلى كتلة واحدة، لا نتبيّن بينها سوى أطراف الرؤوس وقطع الملابس القليلة التي تستر العورات، أو الأربطة التي تُضمّد بها الجراح. ربما يعبّر الفنان في أعماله تلك عمّا عاينه بنفسه من مشاهد قاسية في العراق، غير أن هذه المشاهد نفسها تحمل كذلك بعدا إنسانيا يتجاوز حدود المساحة الجغرافية والمعاناة الفردية، فوطأة الحرب والقهر هي أمور قد يعاني من ويلاتها الناس في أي مكان وزمان، هي صور تتكرّر وتتواتر أمام أعيننا أيضا عبر وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي. غير أن هذه المشاهد التي يعالجها باران في لوحاته رغم اعتيادنا عليها، إلّا أنها تصدمنا حين نطالعها، فهو قد استطاع ببراعة تكثيف المشهد واختزاله، مجنّبا العناصر الهامشية ومحتفظا فقط بهذه المفردات الدالة على الألم والوحدة. سمة أخرى من سمات أعمال الفنان العراقي تتمثّل في توظيفه الناجح والكثيف للمنظور العلوي الذي يتكرّر في أكثر من لوحة عبر تجربته التصويرية. هذا التوظيف الجيد للمنظور أعطى الفنان براحا مناسبا وقدرة على استحضار أكبر قدر من العناصر داخل المساحة المرسومة، وهي معالجة مناسبة وموفّقة لمشهد الحشود البشرية التي تُميّز العديد من لوحاته. أما اللون فيبدو هنا شحيحا، إذ يُراوح بين الدرجات الرمادية والبُنية، ولكن مع هذا الشُحّ المُلاحظ في استخدام الدرجات اللونية نرى فيضا مقابلا في توظيف الظل والنور والتعبير عن ملامس الأسطح، كأنه ينبش بين مشاهد الألم والمعاناة الإنسانية عن هذه اللمسة الجمالية التي تميّزها. والفنان سيروان باران من مواليد عام 1968، تخرّج في الفنون الجميلة بجامعة بابل والتحق بالخدمة العسكرية في العراق خلال فترة الثمانينات والتسعينات، وهي الفترة نفسها التي شهدت عددا من الصراعات والحروب الإقليمية التي كان العراق طرفا فيها. عمل الفنان مُرغما أثناء وجوده بالخدمة العسكرية في رسم لوحات دعائية لصالح النظام العراقي حينها. لكنه تمرّد في ما بعد على هذه المرحلة مسلطا الضوء على الجانب الدموي لهذا النظام.
مشاركة :